كيف غيّر السلف الصالح أحكام الفقه لتناسب العصر؟..الإسلام دين إنسانى والأوائل كانوا ينظرون إليه بحرية وإيجابية بينما نحن نسجن الدين وأنفسنا تحت وهم الاقتداء بالسلف.. والفقه الإسلامى استمد حيويته من است

الفقهاء من السلف جددوا شباب الفقه فى زمانهم بينما نرى من يسعى للوقوف لمعارضة طبيعة التنوع والزمان الإمام مالك أفتى بعدم جواز صيام «الستة البيض» ورفض الحديث الداعى لصيامها.. وأقر بحق الزوجة فى الطلاق إذا لم ينفق عليها زوجها عمر بن الخطاب وضع أسس الدولة العادلة.. أنشأ الدواوين ولم يجد حرجا فى استعارة النظم الإدارية من الدول «الوثنية».. وأبطل حد السرقة فى عام المجاعة على بن أبى طالب كان يسن من الأحكام ما يراه مناسبا لعصره الإمام أبو حنيفة النعمان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة وأفتى بأن من حقها تولى القضاء الإمام المصرى الليث بن سعد اشتكى للخليفة من أحد ولاة مصر الذى أمر بهدم بعض الكنائس فعزله الخليفة عن الولاية وأمر بإعادة بناء الكنائس القديمة وإضافة كنائس جديدة يكاد يكون من المسلمات أن نقول إن الإسلام دين إنسانى، والإنسان كائن يميل دائما إلى الحركة ويعتبرها دليلا على الحياة، فما بالنا بالأمة التى نزلت عليها هذه الرسالة التى كانت تعد من أكثر الأمم حركة وحيوية فى التاريخ، فالعرب تجار فى الأساس، يبحثون دائما عن الرزق والمال والطعام، يفزعون إلى الرحيل إذا نضبت المياه أو جف العشب، يغيرون شمالا ويمينا بحث عن غنيمة أو دفعا لعدوان، محاربون أيضا، يتقنون الكر والفر، يخططون باحثين عن أفضل الطرق لمهاجمة العدو، يغيرون تكتيكاتهم وفقا لما تمليه أرض المعركة، وقد ظهرت هذه الحركة جليا فى تاريخ الإسلام نفسه بشكل غنى عن التذكير، فقد هاجر المسلمون كثيرا بحثا عن الأمان أو جلبا للتحالفات أو المنافع، هاجروا إلى الحبشة مرة، وإلى المدينة المنورة مرة، أوفدوا السفارات للحكام والملوك، وبعثوا بالرسل إلى قادة العشائر والقبائل فى غالبية أنحاء الجزيرة، كما امتلأ تاريخ الإسلام بالغزوات والفتوحات، وبقوا على هذه الحالة النشطة منذ أيام البعثة الأولى وخلال عهود التاريخ الممتدة عبر القرون. ومن هذه الحركة الدائمة استمد الفقه الإسلامى عبر العصور حيويته مجددا شبابه، تبدو الآن الحاجة ملحة إلى نفض الغبار عن الفقه الإسلامى، لتحرير السلف من عبودية الخلف، فللأسف نحن لم نسجن أنفسنا بالسلف ولا أفعال السلف ولا أقوال السلف، ولا تاريخ السلف ولا نصائح السلف، لكننا سجنا السلف نفسه، حكمنا عليه بالإعدام، وضعناه طوقا حول رقبتنا وقيدا فى معصمنا، فسجناه من حيث أردنا أن نكرمه، والسبب فى هذا هو أننا لم نتعامل مع السلف تعاملا صحيحا، فوقفنا ضد الطبيعة الكونية التى تحفل بالتنوع وتحرض عليه، صرنا كمن يدخل كل الأفلام من منتصفها، لا يدرى لماذا قتل هذا الشاب ذلك العجوز، ولماذا هربت تلك السيدة مع هذا الرجل، لا ننظر فى الأمور نظرة حق، ولا نتبين فروق التوقيت ولا فروق البيئات ولا فروق الظروف، فعلى سبيل المثال فإن أهل المناطق الحارة يشربون الماء باردا أو حتى مثلجا، وقد يتمادى البعض فيفعل هذا حتى فى الشتاء، فهل يصح أن يأتى أحفادهم الذين هاجروا إلى الإسكيمو ليقولوا إن سنة أجدادنا هى شرب المياه الباردة حتى فى الشتاء، وهذا ما أقصد به سجن السلف، فالخلف - أى نحن - سجنا السلف الصالح فى بعضهم تصرفات فى حين أن السلف الصالح لم يسجن نفسه أبدا، بل نظر وتدبر وفكر وقرر، ثم أصدر الأحكام التى تناسب عصره وبيئته وأهل بلادهم. تاريخ الفقه الإسلامى على هذا الحال يخبرنا بمدى الحرية التى تمتع بها السلف مقابل الأسر الذى نعيش فيه الآن، ويخبرنا بأننا نحكم على أنفسنا بالموت إذا لم ننظر ونتأمل ونعقل ثم نعقل ثم نعقل، ولا تحسبن أنى هنا أريد أن أبتدع فى الدين شيئا أو آتى فيه بما ليس فيه، أو أثور على السلف وأقواله وأفعاله، لكننى فحسب أريد أن أقتدى بهذه الزمرة المنيرة المستنيرة، وأن أتبع طرائقهم وآلياتهم فى العمل والتفكير، ولعل هذا النهج هو الذى دفع الإمام أبو حنيفة النعمان، إلى القول: «لو أدركنى النبى وأدركته لأخذ بكثير من قولى وهل الدين إلا الرأى الحسن؟»، ولهذا سنحاول هنا أن نطوف سريعا على أهم محطات الفقه الإسلامى منذ نشأته وحتى العصر الحديث لندرك كيف كان الأوائل ينظرون إلى الدين وكيف تفاعلوا معه بإيجابية، بينما نحن نسجن الدين وأنفسنا بدافع توهم الاقتداء بالسلف. عمر بن الخطاب.. رائد فقه الواقع من وجهة نظرى فإن عمر بن الخطاب هو المؤسس الحقيقى للدولة الإسلامية المدنية، الذى حوّل الدولة من الوضع القبائلى إلى الوضع المؤسسى، والحقيقة التى يجب أن نشير إليها وأن نضعها فى الحسبان ونحن نتناول دور الصحابى الجليل عمر بن الخطاب فى بناء الفقه الإسلامى، هى أنه رضى الله عنه اعتبر العقل وحيا دائما، وسار يفعل ما يمليه عليه قلبه حتى فى حياة الرسول، وحفظ لنا تاريخ الإسلام عدة وقائع خالف فيها عمر «رضى الله عنه» رأى رسول الله، فأيد الله عمر من فوق سبع سماوات، وكما يذكر جلال الدين السيوطى فى كتاب «لباب النقول فى أسباب النزيل» موردا حديث البخارى الذى قال فيه عمر «وافقت ربى فى ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه فى الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت كذلك». كما استعجل تحريم الخمر لما رآه من عاقبة أفعالها بعقول الناس فأجيب على هذا، وووفق رواية «أبو داوود» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ : « لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِى الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِى فِى الْبَقَرَةِ «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ»، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِى الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِى فِى النِّسَاءِ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى» فَكَانَ مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُنَادِي: أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِى الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون»، قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا «رواه أبو داود». كما استبشع أن يصلى رسول الله على المنافقين، فنزلت الآية الكريمة «ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون»، كما أن الله بشره بعد صلح الحديبية بدخول مكة، حينما ثار وهاج رافضا للصلح فطمأنه رب العزة بالقول: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا»، ولهذا قال رسول الله فى بيان فضل عمر: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه». هذا حال عمر بن الخطاب وقت أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم على رؤوس الصحابة يأمرهم فيأتمرون، وينهاهم فينتهون، غيورا مدافعا عن دين الله، يريد الله صدقه وحماسه، ويؤيده مرة، ويطمئنه مرة، فصدق عمر قلبه وعقله، واستمرت اجتهادات عمر وآراؤه الصادمة للمجتمع بعد وفاة أبى بكر الصديق، حتى قيل إنه كان يبطل الحدود ويعطل الآيات ويطبق ما يراه صحيحا من وجهة نظره، لكن المتأمل لاجتهادات عمر الكثيرة يجد أنه حافظ فى مجملها على مقاصد الشريعة وغاياتها، وأنه لم يخالف المفهوم العام للآيات الكريمة، وإنما استجاب لمؤثرات العصر ومتغيراته ولم يجعل القرآن الكريم أو السنة المطهرة حجابا على عقله، وإنما قنديلا يضىء له الطريق، والدليل على ذلك واقعة الاختلاف على تقسيم الأراضى التى فتحها المسلمون عنوة، والتى أبى «عمر» أن يقسمها على جنده مثلما تأمر الآية الكريمة «واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسة وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان»، والتى تأمر بأن توزع أراضى المغنم على جنود المسلمين الذين تحملوا الصعاب فى فتحها، وهو الشىء الذى فعله الرسول ذاته حينما فتح «خيبر»، فقسم أراضيها على المسلمين آنذاك، لكن عمر لم يعترف بهذا التقسيم ورأى توزيعها على الفلاحين أهل البلاد مع أخذ ضريبة منهم، مخالفا بذلك رأى العديد من الصحابة الذين تمسكوا بتنفيذ النص كما هو، لكن عمر أيضا تمسك برأيه وترك الأراضى لأصحابها من السكان المحليين للبلاد ولم يعطها لجنده ولا ولاته، وبهذا السلوك العقلانى الحميد حافظ عمر على الأراضى الخصبة فى يد من يقدرون على زراعتها، وابتعد بجنوده عن حياة الاستقرار والنعومة، وطمأن أهالى البلاد المفتوحة على أقواتهم وأراضيهم، وحفظ الأرض لمن سيأتى بعد ذلك من المسلمين. الحالة الثانية التى شهدت اصطداما حادا بين رأى «ابن الخطاب» ونص قرآنى هى إبطاله تنفيذ حد السرقة، وهو قطع اليد فى عام المجاعة، وذلك نظرا لانتشار الفقر وعدم قدرته على إحداث حالة الكفاف المنشودة، وبذلك سنّ سنة جديدة للإسلام وهى عدم تطبيق الحدود العقابية قبل سد الحاجة، أما الاجتهاد الآخر الذى قام به عمر رضى الله عنه فهو إبطال سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، خلافا للآية الكريمة «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، والمؤلفة قلوبهم هم الذين دخلوا الإسلام حديثا ولم يستقر الإيمان فى قلوبهم، فأراد الله جل وعلا أن يستميل قلوبهم بأن يدمجهم فى المجتمع الإسلامى، مانحا إياهم ميزة الحصول على سهم من أموال الزكاة ليؤلف بين قلوبهم والإسلام، وكان رسول الله يجزل لهم العطاء كما سار أبو بكر على هذه الفريضة، أما عمر فقد انتبه سريعا إلى متغيرات العصر، بعد أن اشتد عود الإسلام وقوى بذاته، فقال مقولته الشهيرة «لقد أعزّ الله الإسلام، فلم تعد هناك حاجة لتأليف القلوب» وأبطل منح المؤلفة قلوبهم هذا السهم حتى يومنا هذا، فكان اجتهادا كبيرا فى وقت لم يكن يجرؤ أحد على مثل هذا الاجتهاد إلا عمر. أما اجتهاد عمر الأكبر الذى كان له فضل كبير على بناء الدولة الإسلامية، فهو نقل الدولة من النظام القبلى إلى النظام المؤسسى، وكان هذا الاجتهاد ضرورة ملحة وضعها ظرف اتساع الرقعة الإسلامية أمام عمر، فوجد أنه لا بد للدولة من تأسيس جديد على غرار الامبراطوريات الكبرى، فقسم الممالك الإسلامية إلى خمس مناطق كبيرة، وقسم المناطق إلى قطاعات واختار لكل إقليم واليا يوصيه بجمل وخطابات فى شأن الحكم بما يشبه الدستور الحاكم، وله مُفوَّضون رسميُّون يسافِرُون إلى الأمصار، ويراجعون أعمال الوُلاة، ولما اتسعت الأعمال وكثرت المغانم والأموال استعار من نظام الحكم الفارسى فكرة إنشاء الدواوين، لما رأى فيه فائدة للحاكم والمحكوم، ولم يقل إن هذا النظام مقتبس من دولة وثنية فلا يجوز تطبيقه، بل أعرض عما يمكن أن يثار متخذا من مصلحة المسلمين هدفا أسمى، وانتقى من بين النظام الفارسى والنظام البيزنطى ما رآه مناسبا للوضع الامبراطورى الجديد، وأبقى على الكثير من الأنظمة الإدارية التى ثبت لهم صلاحيتها لتلك البلاد، كما أبقى على استعمال العملات البيزنطية والفارسية وكانت تتميز بنقوشها الوثنية التى تصور آلهتهم ومعابدهم وملوكهم، غير ملتفت إلى ما يمكن أن يقال من أن هذه الرسوم وثنية أو أن تداولها كفر، وأنشأ السجن والبريد وقنن عادة التأريخ بعام الهجرة، وغير ذلك من أمور مستحدثة، رأى عمر أن فيها صلاحا للخلق وتمجيدا للخالق، فلم يتورع عن فعلها متبعا هدى الرسول القائل: استفت قلبك ولو أفتوك. الإمام على بن أبى طالب تاريخيا نضع هنا الإمام على بن أبى طالب، رضى الله عنه وأرضاه، فى المرتبة الثانية، لكن الحقيقة تخبرنا بأن الإمام يستحق أن يوضع فى المرتبة الأولى بعد رسول الله فى تجديد الفقه الإسلامى، فكثير من المسائل التى استعصت على عمر بن الخطاب وقف لها «على» وكثير من المسائل التى احتار فيها الجميع تصدى لها «أبو الحسن» بشجاعة وفهم وعمق وسداد، أما منهج الإمام على فى الفقه ومرجعيته فيه بعد القرآن والسنة فنستدل عليه من بعض ما قاله، وأشهر مقولاته فى هذا الشأن هى «لكل فضيلة رأس ولكل أدب ينبوع، ورأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل، الذى جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا». ومن دلائل أهمية فلسفة إعمال العقل التى تبناها الإمام على، حفاظه على أرواح المسلمين من الإزهاق بالباطل، وحفظت لنا كتب السيرة والتفسير إشارات ومواقف ظهر منها مدى تفقه الإمام على فى الدين ومدى وقوفه على أسرار اللغة والآيات، ففى واقعة شهيرة حفظتها كتب الفقه أن رجلا أتى الخليفة ويقال إنه عثمان بن عفان، وفى روايات أخرى عمر بن الخطاب، قائلا إن امرأته حملت بعد ستة أشهر فقط من زواجهما، فأمر الخليفة أن تأتيه المرأة ليقيم عليها الحد، فدخل عليه على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال إن الله تبارك وتعالى يقول فى كتابه «وحمله وفصاله ثلاثون شهرا» وقال «وفصاله فى عامين» وأن الله قال «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» وبناء على استقرائه لآيات الله فى شموليتها وعدم اقتطاعها من سياقها أكد للخليفة أنه يجوز أن تلد المرأة بعد ستة أشهر فقط، لأن الله أكد أن الفصال أى الإرضاع فى حولين كاملين، وأن الحمل والفصال مدتهما 30 شهرا وبطرح الحولين «24 شهرا» من الثلاثين شهرا يتبقى لنا ستة أشهر هى مدة الحمل، وبهذا الحكم المستبصر تمت تبرئة المرأة والحفاظ على دمها وسمعتها. مثال آخر على فطنة الإمام وإلمامه بعلوم الدنيا ما دار من حوادث بين الخليفة عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب، الذى كان يعده عمر مستشاره الأول وقاضيه العالم، فقد أمر عمر بإقامة الحد على امرأة زنت، فمنعه الإمام قائلا: «إن هذه المرأة مبتلاة» أى مجنونة، وذكره بحديث الرسول القائل «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل»، وتأكيدا على أهمية أن نراعى مصلحة العباد فى تطبيق الحدود وأن نتعامل مع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام بمرونة وسلاسة، وإن اقتضى الحال عدم الالتزام بها حرفيا إن تنازعت ومصلحة المسلمين ضاعف الإمام على عقوبة شرب الخمر وجعلها ثمانين ضربة، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام حددها بأربعين، لكن الإمام وجد أن شرب الخمر استشرى فى البلاد خاصة الأمصار المفتوحة حديثا، فخشى أن تتوغل هذه الرذيلة فضاعف الحد ملتزما بروح الإسلام الذى يأمر بالعدل ويحافظ على المجتمع ومتبعا حكمة الرسول من تنفيذ الحد وليس حرفيته. وكأقصى ما يلتزم به الفرد من حقوق الإنسان منع على بن أبى طالب عمر بن الخطاب من إقامة الحد على امرأة زنت وحملت سفاحا، فقال له إنه لا سلطان لك على ما فى بطنها، ثم قال له لعلك انتهرتها أو أخفتها فقال له قد كان ذلك، فقال الإمام: أو ما سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حد على معترف بعد بلاء» فأخلى عمر سبيلها، امرأة أخرى أتت عمر بن الخطاب وادعت أن رجلا كانت تهواه اغتصبها وأتت بثوبها قائلة إن عليه أثر منىّ الشاب، فسأل عمر النساء فقلن له: إن ببدنها وثوبها أثر المنى، فهم بعقوبة الشاب، فاستغاث الشاب مقسما على أنه لم يمسس المرأة، فاستشار عمر بالإمام فنظر على إلى ما على الثوب، وطلب ماء ساخنا وصبه على الثوب، فجمد ذلك الذى كانت تدعى المرأة أنه منى وظهر أنه بياض بيض ثم أخذه واشتمه وذاقه، فعرف طعم البيض، وزجر المرأة فاعترفت، وأعان الإمام الفاروق فى الكثير من المواقف المستحدثة وساعده فى إقامة الدولة الجديدة، ومثال ذلك ما ورد تفصيله عن مسألة تقسيم أرض العراق بين الفاتحين ورغبة بعض الصحابة فى ذلك، ومخالفة عمر لرأيهم برغم أنهم احتجوا عليه بالقرآن والسنة، فاستشار الفاروق الإمام فى ذلك فكان رأيه موافقا لرأى الخليفة فأخذ برأيه، هذا هو على بن أبى طالب الذى ولد فى الكعبة ومات فى المسجد المبشر بالجنة، والذى تدلنا حياته ومنهجه على مدى تقديسه للعقل ومراعاته للعدل. الإمام أبو حنيفة النعمان جملة واحدة قالها الإمام الشافعى عن الإمام أبو حنيفة النعمان، تظهر لنا مكانة هذا الرجل وعلو قدره بين أقرانه ومعاصريه وأكبر فقهاء عصره، قال الإمام الشافعى عنه «الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة»، ومع هذه المكانة لك أن تتعجب حينما تعرف أن هذا الإمام «الأعظم» اتهم بالكفر أيضا وقال أحدهم طعنا فيه وفى تلاميذه بأنهم «خارجون على ولى الأمر ومرتدون عن الإسلام، وأنه إن يقال إن بالحى خمارا خير من أن يقال إن فيه أحدا من أصحاب أبى حنيفة». وتبرز ثورية الإمام فى الفقه الإسلامى حتى على نفسه، حينما يقول: «قولنا هذا رأى، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا»، ويبين أبو حنيفة منهجه فى الفقه والبحث فيقول: «إنى آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبى والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب، فلى أن أجتهد كما اجتهدوا»، وحينما احتج الناس عليه بقول التابعين قال لهم: التابعى رجل وأنا رجل. ويُروَى أن جماعة من الخوارج اقتحمت عليه مجلسه وسط أنصاره، وكان الخوارج يتبعون العنف منهجا، لا يتورعون عن قتل من يخالفهم ومن يقول بأن الإمام على كان على صواب حينما قبل التحكيم، وكان الإمام من هؤلاء الذين يؤيدون الإمام على، فخيّره شيخ الخوارج بين ما أسماه «التوبة» وهو الرجوع عن تأييد «على» من وجهة نظره، وبين أن يقتل، فسأله الإمام أن يناظره فرضى، وقبل المناظرة، سأله أبو حنيفة: ماذا لو اختلفنا فى المناظرة؟ فقال له الرجل: نحكّم رجلا بيننا، فضحك أبو حنيفة وقال للرجل: ها أنت تجيز التحكيم لعلى برضاك أن تحكّم رجلا إن اختلفت معى. وحدث أن حكم القاضى «ابن أبى ليلى» بجلد امرأة مجنونة وهى واقفة لأنها سبت رجلا، قائلة: «يا ابن الزانين»، فأقام عليها حدين فى بيت الله حدا لقذف الأب وحدا لقذف الأم، وبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ ابن أبى ليلى، فقد جلدها واقفة والنساء تضرب قعودا، وأقام الحد فى المسجد والحدود لا تقام فى المساجد، وضرب لأم الرجل حدا ولأبيه حدا وهذا لا يجوز، ولو أن رجلا قذف جماعة فهل عليه الحد بعدد هذه الجماعة؟، وعليه فإن الجمع بين الحدود لا يجوز، كما أن أبوى الرجل لم يحضرا فيدعيا، وخلاف هذا كله فالمرأة مجنونة والمجنونة ليس عليها حد، ولما بلغ الأمر «ابن أبى ليلى» ذهب إلى السلطان واشتكى أبا حنيفة، وقال له إن الإمام أهانه، وإهانة القاضى إهانة للخليفة ذاته لأنه من عينه، فأصدر الخليفة أمرا بألا يعلق الإمام على أحكام القضاء، مانعا إياه من الفتوى، فامتثل الإمام لحكم الخليفة لكنه انتهز احتياج الخليفة إليه وطلبه الفتوى منه، فامتنع عن إجابته إلا أن يأذن له فى أن يفتى للناس جميعا فأذن له. كان هذا عهد الإمام بالخليفة العباسى، فمن ناحية لا يمكنه منه، ومن ناحية أخرى لا يريحه بالتمهيد له، وحدث أن تشاجر الخليفة مع امرأته لأنه كان يريد أن يتزوج عليها، فقال لها من ترتضيه ليحكم بيننا، فلم ترتض إلا الإمام، ولما حضر أبو حنيفة، قال له الخليفة: أوليس من حقى أن أتزوج عليها كما أباح لى الشرع؟ فقال له الإمام: إنما أحل الله هذا الأمر لأهل العدل، حيث قال «وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة»، فينبغى علينا أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه، فسكت الخليفة وارتضى حكم الإمام، ولما ذهب إلى داره وجد زوجة الخليفة قد أرسلت إليه خادما وجارية حسناء وأموالا وحمارا وثيابا فاخرة نادرة، فشكرها وأرسل لها السلام ورد إليها هديتها قائلا: إنما ناضلت عن دينى وقمت بذلك المقام لوجه الله. ولأن أبا حنيفة كان تاجرا، فقد كان على دراية كبيرة بدقائق التجارة ومنازعاتها، وقد انعكس ذلك على فقهه الذى تميز بالتيسير دائما على أهل التجارة والصناعة والمال من دون أن يخالف شريعة، ولا أن يتعارض مع نص، ولهذا تراه مثلا يبيح أن يتزكى الرجل بترك ديونه المستحقة على الفقراء، كما أنه كان يؤمن بحرية الإنسان فى أمواله وأفعاله وتجارته، ولهذا فقد حرّم الحجر على السفيه إذا ما تجاوز سن الخامسة والعشرين، كما أنه حرّم الحجر على المدين وفاء لدينه لانتفاء شرط الرضا من المدين، كما أجاز ألا يقرأ الناس من خلف الإمام تخفيفا عليهم، وكان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة، مفتيا بأن من حقها تولى القضاء، مستشهدا بواقعة تولية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الحسبة لامرأة، وقال: إن من حق المرأة أن تزوج نفسها بنفسها دون ولى، لأن السيدة عائشة راوية حديث «لا زواج إلا بولى» زوجت ابنة أخيها فى غيابه، وغلّب دائما اليقين على الشك بأن أجاز لمن توضأ وشك فى أنه فعل ما ينقض الوضوء، السير إلى الصلاة لأن الشك لا يرتقى إلى اليقين، كما حرّم تكفير المسلمين وأثّمه حتى لو ارتكب المسلم المعاصى. الإمام مالك لم تكن شهرة الإمام وكثرة تابعيه ونمو مذهبه وانتشار مذهبه من فراغ، فهو الذى عاش حياته ينفق جل عمره فى التوسع فى العلم واستزادته، وروى عنه إنه قال ذات يوم مستنكرا ومتعجبا تدوين فتاواه: «إنى بشر أخطئ وأرجع، وتكتبون كل ما أقوله!! ونهى تلميذا له عن كتابة فتواه قائلا: لا تكتبها فإنى لا أدرى أثبت عليها أم لا»، وروى عنه أنه كان يقول عقب كل فتوى يفتى بها، هذا ما أظنه، مرددا قوله تعالى: «إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين». وفى الحقيقة، فإن الفقه المالكى قد أعطى لمصلحة المسلمين كلمة عليا، فكان يرى أن الله تعالى لم ينزل التنزيل ولم يبعث الرسل إلا لمصلحة الناس الشخصية والعامة، وكان كثيرا ما يفتى بموجب هذه القاعدة التى كان لإعمال العقل فيها الدور الأكبر، بشرط أن يحدث اتفاق بين الناس على أهمية هذه «المصلحة»، وأن تكون مقبولة عند ذوى العقول السليمة، أن يرتفع بها الحرج لقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، وعلى هذا أفتى بجواز إمامة «المفضول» الذى يفضله الناس على الأفضل درءا للخلافات والفتن، متفقا فى ذلك مع رأى الإمام زيد بن على زين العابدين، كما أفتى فى حال خلو بيت مال المسلمين من المال وكانت الدولة فى حاجة للأموال أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم إلى أن يظهر مال فى بيت المال، مراعيا عدم إيغار صدر الأغنياء فى ذات الوقت، كما أفتى بأنه إذا استشرى فى الأرض أو فى ناحية منها «الحرام» وانسدت الطرق على المكاسب الطيبة فلهم أن ينالوا - كارهين - من بعض هذه المكاسب، وذلك دفعا للضرر وسدا للحاجة، مجيزا بذلك أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الدم وغير ذلك من الخبائث إن لم يكن منها بد. كما أفتى مالك بناء على هذا التوجه بحق الزوجة فى الطلاق إذا لم ينفق عليها زوجها درءا للمفاسد، أو إن ظهر به عيب جسدى أو أخلاقى لم يكن ظاهرا وقت العقد، وأفتى أن «ديون الله أو الدولة» كالزكاة أو الضرائب لا تؤخذ من تركة المتوفى إلا إذا اعترف بها المورث قبل وفاته، حتى إذا ثبتت هذه الديون بأى طريق آخر من الإثبات، ذلك لأن ديون العباد مقدمة على ديون الله، لأن العباد والأفراد يضارون أكثر من الدولة، أما عن ديون الله كالزكاة، فالله غفور رحيم، كما أفتى مالك بعدم جواز صيام «الستة البيض» ورفض الحديث المحرض على صيامها لأن فى ذلك إطالة لشهر رمضان وهو ما لا يجوز، كما أفتى بضرورة وضع ضوابط لحق الرجال فى الطلاق والزواج وتعدد الزوجات بحيث لا تضار الزوجة ولا الأولاد ولا تتأثر الأسرة التى تعد أساسا للمجتمع، كما أوجب الأخذ بالعادات إذا لم يوجد نص قطعى الدلالة قطعى الثبوت، مؤكدا أنه من الجائز اقتراف المحظورات إذا كان فيها دفع لمضرة أكبر، وانعكس هذا التوجه فى الفقه المالكى الذى يراعى المصلحة العامة والخاصة، والذى يعلى من قيمة العقل ويعطى أهمية كبيرة للاجتهاد على بقاء المذهب وانتشاره، فصار مذهب مالك من أكبر وأهم المذاهب فى العالم الإسلامى، وعليه قامت ممالك، ومن أجله شنت حروب. الإمام المصرى الليث بن سعد للمصريين أن يحزنوا غير ملومين إذا ما طالعوا قول الإمام الشافعى عن الإمام المصرى الليث بن سعد، نصير الفقراء، وظهير الضعفاء، عزيز النفس، صافى الوجدان، فقد كان الشافعى يقول: «الليث أفقه من مالك إلا أن قومه أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به»، وكثير من المؤرخين الذى ذكروا الليث يرددون عنه عبارة واحدة وكأنها متوارثة عنه، وهى «كان سريا من الرجال، نبيلا سخيا له ضيافة»، ويستفيضون فى شرح محاسنه ومآثره، وقد لاحظ دارسو فقه الإمام أنه كان يهتم بالأحاديث التى تهذب الروح وتحرض على تأمل جمال الحياة والتفكر فيها، ويروى عنه أن أول حديث رواه هو «إن الله جميل يحب الجمال». ويقول الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبدالرازق: «إن الذى نهض به الليث من توجيه الحركة الفقهية فى عصره إلى الناحية الخلقية الروحية، كان من حقه أن يجعل الليث معدودا فى أئمة الصوفية الذين نهضوا بالتصوف نهضته الأولى، ونهضة التصوف الأولى كانت أخلاقية»، ويتفق عبدالرازق فى هذا الاعتقاد مع الأصبهانى صاحب «حلة الأولياء» الذى عدّ الليث من أهل التصوف الأوائل، قائلا: إنه كان يعلم الأحكام مليا ويبذل الأموال سخيا. وذات يوم لامه الإمام مالك لتمتعه بأطيب الطعام، وتزينه بأبهى الثياب، وخروجه للنزهة فى الحدائق والأسواق، فكتب مالك إليه معاتبا: «بلغنى أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق «أى الثياب الراقية الفاخرة» وتمشى فى الأسواق»، فكتب إليه الليث: «قال الله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، ويبدو أن مالك قد اقتنع بوجهة نظر الليث فسار على نهجه حينما طابت له الدنيا، فنال من زينتها ما جعل أتباعه يستفسرون عنها فيقول لهم «إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده». وكان رضى الله عنه واسع الثقافة محبا للعلم بكل صنوفه وأشكاله، فكان يتقن اللغتين العربية وهى لغة الإسلام والقرآن والحديث، بالإضافة إلى اللغة القبطية التى لم تكن قد اختفت بعد من الشارع المصرى، كما كان يتقن اليونانية واللاتينية، وهو الشىء الذى جعل عقله بالتأكيد ينفتح على الثقافات الأخرى لينهل من علومها ويصقل تجاربه فى الحياة والفكر والثقافة. ويروى أنه ذات مرة كان يتبع عادته الأثيرة ممارسا هوايته المفضلة وهى التغنى بأبيات الغزل، ولما سمعه أحد الشيوخ قال له «هذا مباح ولكن لا تفعله فسيكون لك فى الفقه شأن»، ويبدو أن علم الليث وذكاءه المتقد جعل الجميع ينظرون إليه بإعجاب و«تعلموا الحلم قبل أن تتعلموا العلم» كانت تلك المقولة هى الأثيرة عند الإمام المصرى الكبير، وقد قالها يوما وهو شاب يافع حينما حاول أن يمزج بين القول بالحديث والقول بالرأى، فنهره شيوخه واحتدوا عليه، فقالها لهم ثم لازمته طوال حياته وكان كلما احتد خلاف ذكرها لمخالفيه. ويبدو أن ذكاء الليث وسرعة تحصيله جعلاه يمتلئ بالعلم فى وقت قصير، ما حال دون تلمذته على أيدى علماء الحجاز والعراق لعجزهم عن إضافة أى شىء جديد لمالك، حتى أن أحد الشيوخ ناظره وهو فى العشرين، فقال له الشيخ إن علمك علم رجل فى الستين، وبرغم علمه الكثير الكثيف لم ينل «الليث» حظه من التقدير فى زمن الدولة الأموية، فقد منعه ولاتها من الإفتاء فى المسجد الكبير، لأن أصله ليس عربيا، ولأنه من الموالى أى من أبناء البلاد المفتوحة، فكان يقول مستاء: «ما ذنبى إن كانت الموالى تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون». ورغم ثراء الليث واتساع ثروته، لكنه لم تستحق عليه زكاة قط ذلك لأنه كان لا يحتفظ بأموال لأكثر من عام، فكان يتخلص من المال وكأنه يبعد عن ثوبه عقربا، ويذكر أن امرأة طلبت منه رطلا من عسل لتعالج ابنها، فى وقت شح فيه العسل، فأمر كاتبه أن يعطيها مرطا من عسل «والمرط نحو مائة وعشرين رطلا»، فقال كاتبه: «سألتك رطلا أتعطيها مرطا؟» فقال الليث: «سألتنا على قدرها ونحن نعطيها على قدرنا»، وكانت له ضيعة بالفرما «قرب بورسعيد» يأتيه خراجها، فلا يدخله داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين وقد جعل المال فى صرر يوزعها جميعا صرة بعد صرة، وكان لا يتصدق بأقل من خمسين دينارا. بالمحبة عاش الإمام يشيع بين الناس العلم والفضيلة وحب الصحابة الأكرمين، وقد ساء الإمام أن رأى بعض أهل مصر لا يبجلون الخليفة الراشد والصحابى الجليل عثمان بن عفان، فصار ينهى الناس عن ذلك ولما هدم أحد ولاة مصر بعض الكنائس كتب الإمام إلى الخليفة بالأمر، فعزل الوالى لأنه بحسب وصف الليث كان مبتدعا مخالفا لروح الإسلام، ولما تولى الوالى الجديد أمره بأن يعيد بناء الكنائس المهدمة وأن يبنى كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون فى مصر، موضحا للوالى أن أكثر الكنائس التى كانت قائمة بمصر إنما بناها الصحابة، ممن قادوا جيش الفتح الإسلامى، معتبرا إجماع مثل هذا العدد من الصحابة هو فى قوة السنة، فما كانوا ليجمعوا على أمر إلا لأنهم تعلموه من الرسول، كما احتج الإمام الليث على من هدم الكنائس بقوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا». الإمام الشافعى وجد الإمام الشافعى أن الفقهاء فى عصره فريقان، الأول يأخذ بالأحاديث وعلى رأسه الإمام مالك، والثانى يأخذ بالرأى المستنبط من الأحاديث بالقياس وعلى رأسه الإمام أبو حنيفة، فعمد الإمام الشافعى التقريب بين هذين الفريقين، فلا الرأى رأى عن هوى، ولا من المعقول أن يخالف الكتاب والسنة رأى لا يبتغى إلا مرضاة الله، وللتدليل على حاجة الفكر الإسلامى إلى ما يزاوج بين الرأى والحديث يورد الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى فى كتابة «الأئمة التسعة» نماذج لأبرز المواقف التى أوجبت الاحتكام إلى الرأى المستنبط من الفطرة السليمة والغرض النزيه والمتفق مع مقاصد الشريعة والحديث الشريف. فيقول: سأل أحد أهل الرأى واحدا من أهل الحديث فى أمر طفل وطفلة رضعا معا من ضرع شاة ثم كبرا، أيجوز لهما الزواج؟ فقال صاحب الحديث: زواجهما حرام، فسأله صاحب الرأى: بأى نص حكمت؟ فقال صاحب الحديث: بالحديث القائل: كل صبيين اجتمعا على ثدى واحد حرم أحدهما على الآخر، فقال صاحب الرأى ضاحكا: قال الرسول: اجتمعا على ثدى واحد لا على ضرع واحد، إنما يثبت الحديث بين الآدميين لا بين شاة وآدمى، فلو أنك أعملت العقل والرأى ما أخطأت، وما سويت بين المرأة والنعجة! فى الخمس سنوات التى عاشها الإمام فى مصر أنجز ما لم ينجزه فى حياته كلها، وأسس الإمام قواعد أصول الفقه وهى الكتاب والسنة المجمع عليها التى لا اختلاف فيها، والإجماع ثم القياس، وتحامل على نفسه مقصرا فى حق صحته، فقد ابتلاه الله بمرض البواسير ونصحه الأطباء بالتقليل من جلوسه للدرس وإلا فستكون فى جلساته أسباب موته، لكنه لم يكترث، بحياته وصحته فى مقابل تأسيس مذهبه وتنقيح علمه، فمات معانيا مع هذا المرض، لكن ياقوت الحموى فى كتابه معجم البلدان ذكر سببا آخر لموت الإمام الشافعى يضعه فى خانة شهداء الرأى بلا جدال، فيقول إنه كان هناك شاب من أتباع الإمام مالك اسمه فتيان «فيه حدة وطيش» وساء هذا الفتيان تأليف الإمام الشافعى كتابه الشهير «خلاف مالك» وكان يناظر الإمام بحقد وتعصب، وفى إحدى المناظرات أحرج الشافعى «فتيان» على الملأ، فازدادت حدة «فتيان» وتهوره، فشتم الإمام الشافعى شتما قبيحا، فلم يرد عليه الإمام، لكن أحد الحضور سرد للوالى تلك الواقعة، فأمر الوالى أن يضرب فتيان بالسياط يحمل على جمل وينادى به المنادى هذا جزاء من سب آل رسول الله، وقد كان الشافعى يلتقى فى نسبه مع الرسول الكريم، وهذا ما أثار استياء أصحاب فتيان فتربصوا بالإمام بعد صلاة العشاء، وضربوه ضربا مبرحا ومات على أثر هذا الضرب، وعلى فراش الموت أنشد الشافعى شعرا، قائلا: فلما قسى قلبى وضاقت مذاهبى.. جعلت رجائى نحو عفوك سلما تعـاظمنى ذنبى فلما قـرنته.. بعفوك ربى كان عفوك أعظما الإمام أحمد بن حنبل.. ظلموه حيا وأساءوا إليه ميتا أساء أصحاب المذهب الحنبلى إلى الإمام أحمد بن حنبل، كثيرا، وليس أدل على هذا من تلك الحوادث المؤسفة التى أشاع فيها الحنابلة الفوضى فى أرجاء الدولة الإسلامية فى صورة أشبه بصورة إرهابيى التسعينيات، وهذه الإساءات هى بعض مما ألحقه أتباع الإمام ابن حنبل بسيرته العطرة، وتتلمذ ابن حنبل على يد أعظم الفقهاء «الشافعى» واضطلاعه على علوم مالك وأبى حنيفة، لكن يبدو أنه كان لا يريد لنفسه أن يتحمل عبء الإفتاء، فكثف جهوده فى جمع الحديث والحفاظ عليه، حتى اشتهر عنه أنه «محدث» وليس فقيها ولا إماما. ويقول ابن خلدون فى تاريخه: «فأما مذهب أحمد، فمقلده قليل، لبعد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته فى معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض، وسبق أن بينا فيه رأى الطبرى، وعده ابن قتيبة فى المحدثين وليس فى الفقهاء، وكان الإمام ذاته يكره أن ينقل عنه أحد فتاواه، أو ينشرها أحد باسمه، ويروى عنه أنه قال لأحد أتباعه الذين كانوا يستهوون كتابة آرائه: لا تكتب رأيا لعلى أقول الساعة بمسألة ثم أرجع عنها غدا، كما أنه كان يتحفظ فى الإفتاء وأخذ عن الإمام مالك ميله للقول «لا أدرى» فى المسائل المستعصية، ولم يكن يفتى فى المسائل الافتراضية، فكان لا يفتى إلا فى الأمور الواقعية. ولأن الإمام لم يكن ليكتم علما تماما مثل الإمام مالك، الذى عذبه الوالى لأنه لم يكتم حديث رسول الله «ليس على مستكره بطلاق»، الذى فهم الناس منه أنه يحلل التحرر من بيعة الخليفة المنصور لأنه أكره الناس عليها، فنرى ابن حنبل يذكر الكثير من الأحاديث التى وردت إليه ما دامت قد وردت إليه من رواة «ثقة» دون النظر إلى أى شىء آخر، ولهذا انفرد بحديث شرب معاوية بن أبى سفيان للخمر بعد تحريمها، وهو الحديث الذى حسّنه الشيخ مقبل الوادعى وهو من هو فى التيار السلفى فى كتابه «الصحيح المسند مما ليس فى الصحيحين»، وأورده الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده تحت رقم 22941 الوارد فى الجزء الثامن والثلاثين من المسند طبعة مؤسسة الرسالة التى حققها العلامة شعيب الأرناؤوط ص 25 و26، حيث يقول الحديث: حدثنا عبدالله حدثنى أبى ثنا زيد بن الحباب حدثنى حسين ثنا عبدالله بن بريدة قال دخلت أنا وأبى على معاوية فأجلسنا على الفرش ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ثم ناول أبى ثم قال ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال معاوية كنت أجمل شباب قريش وأجوده ثغرا وما شىء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدثنى»، ويقول عن هذا الحديث العلامة الأرناؤوط إن إسناده قوى روى له أصحاب السنن، وحسين بن واقد صدوق لا بأس به، ورواته ثقات الرجال صحيح كما أن ابن عساكر أخرجه فى كتابه تاريخ دمشق فى ترجمة عبدالله بن بريده. ومن اللافت هنا أن نلحظ أنه برغم تحفظ الإمام أحمد الكثير على الإفتاء وميله الدائم إلى الاحتكام إلى النص، لكنه كان يعتبر «المصالح المرسلة» أصلا من أصول فقهه، ومن الثابت اعتماد الإمام عليها فى كثير من المسائل، وعدها الإمام ابن القيم من أصول الاستنباط، والمصالح المرسلة هى تلك التى يتوافق المجتمع على أهمية تحقيقها ولم يرد فيها نص صريح، ولهذا أسموها مرسلة، وقد ورث الإمام أحمد هذا الاتجاه عن الإمامين مالك وجعفر الصادق، اللذين كانا يعتبران مصالح العباد أساسا من أسس الدين إن لم تكن تخالف الكتاب والسنة، لكن هذا الاتجاه - وهو عدم مخالفة الكتاب والسنة - وجد من يخرج عنه من أتباع المذهب الحنبلى، فها هو الإمام الطوفى الحنبلى يعلى من شأن مصلحة العباد على الإجماع والكتاب والسنة والنصوص القطعية الثبوت والدلالة، متخذا من حديث رسول الله «لا ضرر ولا ضرار»، متكأ مرجحا من خلاله ضرورة أن تكون مصالح العباد وعدم وقوع الضرر ذات أهمية عليا، ومستشهدا بقول الله تعالى «لكم فى القصاص حياة»، مؤكدا أن العلة من القصاص ليست القصاص فى حد ذاته وإنما «الحياة» ولهذا تراه يضع «المصلحة» فوق كل اعتبار، فيما عدا الأمور التعبدية، لأنها من حق الله تعالى على عباده، بل إنه يقول: المصلحة من أدلة الشرع، وهى أقواها وأخصها، فلنقدمها فى تحصيل المصالح، ثم إن هذا يقال فى العبادات التى تختفى مصالحها عن مجارى العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين فى حقوقهم فهى معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أن أحلنا فى تحصيلها على رعايتنا، لكن على أى حال بقى رأى «الطوفى» شاذا عن إجماع الحنابلة ولم يقل به أحد غيره، بل إن هناك من أخرجه من دائرة الفقه الحنبلى تماما واعتبره مدسوسا عليهم، متهمينه بالتشيع. الإمام الهادى.. رسول العدالة الاجتماعية هو الهادى إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسى، ولد بالمدينة سنة 245 هجرية، وعكف على دراسة الفقه من كل نواحيه وفى كل مصادره، وقام هاديا مرشدا يدعو إلى الله سبحانه وتعالى وإلى صراطه المستقيم، وقد كان يتمتع بشهرة إقليمية كبيرة، حيث كانت الناس تأتى إليه من كل بقاع العالم الإسلامى لتستفتيه فيفتيهم، والسبب فى اهتمام الإمام الهادى بتأويل اجتهاد الرسول وإبراز كيفيته وحجيته هو أن جماعة من المسلمين الذين أرادوا أن يكيفوا الإسلام على هواهم الشخصى ادعوا أن من حقهم أن يجتهدوا منفصلين عن أقوال الرسول، متحججين فى ذلك بأن الرسول كان يجتهد فيعاتبه الله على اجتهاده أو يصححه له، ولذلك كان يقول إن اجتهادات الرسول فى مكانة التنزيل. يقول الإمام أبو زهرة فى هذا: «وقد سار الهادى فى حكم البلاد اليمنية على سنة العدل مما جعل الأهليين يرون فيه مظهرا لحكم الإسلام مصدرا لعهد الخلفاء الراشدين الأولين، وإن رسائله وخطبه وعهوده تجعل القارئ يحس بأنه يعود بالإسلام إلى عهده الأول عهد أبى بكر وعمر وعلى، الذى يعتبرون الحاكم منفذ أحكام الله تعالى، بحيث يحس بها الصغير والكبير والأمير والخفير، ولهذا الاطمئنان إلى الحاكم العادل سار جند اليمن وراءه طائعين لا كارهين، فأخضع نجران إلى ولايته، وأعطى نصارى نجران ما كان أعطاهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فجدد لهم عهدهم فأثبت لهم الذمة والعهد، وللتذكرة فإن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه قد أعطى نصارى نجران ما يمكن أن نطلق عليه «حقوق المواطنة» الكاملة، حيث عهد إليهم بعهد مكتوب قال فيه: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ لِلأسْقُف أَبِى الْحَارِثِ، وَأَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ، وَكَهَنَتِهِمْ، وَرُهْبَانِهِمْ، وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ، لا يُغَيَّرُ أُسقفٌ مِنْ أسقفَتِهِ، وَلا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ، وَلا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلا سُلْطَانهُمْ، وَلا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَبَدًا مَا أَصْلَحُوا وَنَصَحُوا عَلَيْهِمْ غَيْر مُبْتَلَيْنَ بِظُلْمٍ وَلا ظَالِمِينَ». ابن حزم الأندلسى.. إمام الحب والحرية نشأة ابن حزم «384هـ: 456هـ» فى عصر الدويلات الإسلامية بالأندلس جعلت فى قلبه ميلا دائما للتوحد حول المفاهيم النقية للدين الإسلامى بروحه الرحبة وحرصه على إنسانية الإنسان وتفردها، ولأنه نشأ فى دولة الحضارة والعلم والفلسفة والجمال كان لذلك أكبر الآثار فى رؤيته للحياة والفقه. وتلقى الإمام ابن حزم أول ما تلقى من علوم الدين الفقه المالكى، فى وقت ساد فيه فقه مالك فى أغلب ربوع الأندلس، لكن روحه الطلوق لم تكن لتقنع بتعاليم مذهب واحد مهما كان عظيما، فقد تقلب بين مذاهب السنة ودرس المذهب الشافعى وأعجب فيه بتمسك الشافعى بنصوص السنة وأحكام القرآن الكريم، وفى وجهة نظرى فقد أعجب الشيخ بقدرة الإمام الشافعى على استخلاصه لنفسه مذهبا يضاهى مذهب أساتذته «أبى حنيفة ومالك»، ولكنه بعد أن تقلب بين المذاهب وعرفها وخبرها اختط لنفسه منهجا آخر، مخالفا كل ما درسه من فقه ومفيدا من خبراته المتراكمة، فاختار طوعا أن ينتهج منهج الإمام داوود الأصفهانى صاحب المذهب الظاهرى، ولما عاتبه أحد أصدقائه لهجرانه المذهب المالكى وهجومه عليه قال له إن المسيح عليه السلام حينما سئل من هو المخلص فقال: «المخلص من إذا عمل خيرا لا يهمه أن يحمده الناس». والناظر إلى هذا التوجه فى الفقه الإسلامى ربما يتوهم أنه كان توجها ضيقا، وذلك لعدم اعترافه بأى شىء سوى النص، لكن فى الحقيقة فقد كان ابن حزم من أكثر الفقهاء اعتدالا وإدراكا لمتغيرات العصر وانفتاحا على فهم النصوص الإسلامية، فهو يرى مثلا أن الموسيقى ليست محرمة على الإطلاق، بل يرى أن الاستماع إلى الموسيقى مباح مثل التَّنَزُّه فى البساتين ولبس الثياب الملونة، أما الأحاديث التى وردت فى النهى عنها فيقول ابن حزم إنها ليست صحيحة فى مجملها وإن أغلب الأحاديث التى حرمت الموسيقى إما موضوعة أو منقطعة واحتج على مخالفيه بحديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، أن جاريتين كانتا تغنيان فدخل أبو بكر فنهرهما وقال: أبمزمور الشيطان فى بيت رسول الله فقال الرسول: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد». ومن المعلوم أن العيد لا يحل الحرام، وقد رد بعضهم الاستدلال بهذا الحديث بأن هذا غناء بلا آلات، وهذا خطأ لقوله: أبمزمور الشيطان؟ إذن هى مزامير، ولو قبلنا أن المقصود هنا هو الدف لتوجب أن تحمل النصوص التى يحتج بها المحرمون على نفس المحمل، وهكذا أخذ يفند الأحاديث واحدا تلو الآخر، حتى إنه رد الحديث الذى رواه البخارى معلقا فى صحيحه وقال إنه معلق وغير مسند، والمعروف أن المعلق نوع من الضعيف. وانعكست نظرية الحرية تلك التى ساقها متحديا مدعى الجبرية على فقه الإمام وأحكامه التى استخرجها من القرآن، ويعد موقفه من مسألة العبودية سابقا لعصره بمئات السنين، فقد دعا إلى عتق العبيد والجوارى بكل الطرق الممكنة، فاتحا باب العتق وموجها الدولة إلى لعب دور كبير فى هذا الشأن، وكان يؤكد أن العبيد لا يختلفون عن الأحرار فى شىء ولهم ذات الحقوق، بل قال فى أكثر من موضع إن من العبيد أتقياء وصالحين، وأفضل كثيرا من الأحرار، ولفتح باب التحرر من الرق أفتى بأنه إذا رغب عبد فى تحرير نفسه فعلى مالكه أن يساعده على ذلك ويحرم عليه أن يمنعه من التحرر، مستشهدا بالآية الكريمة التى تقول: «والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم مال الله الذى آتاكم»، والأكثر من ذلك أنه أقر بحق العبيد فى الزواج من أربعة نساء، كما أجاز لهم أيضا أن يمتلكوا الجوارى، قائلا إن الله حينما قال «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع» لم يخصص عبدا من حر فى ذلك، وكذلك الأمر فى شأن حق العبد فى امتلاك جارية، وبهذا فتح ابن حزم الباب لعتق العبيد من الرق بشتى السبل، كما أنه ساوى بينهم وبين الأحرار فى الواجبات، غير أنه احتفظ لهم بمزية أن يعاقبوا نصف العقوبة إن أخطأوا، وذلك لأن النص القرآنى أقر بذلك صراحة، كما أفتى بوجوب تقديس حرية الإنسان حتى وهو على فراش الموت، مقرا حقه فى أن يهب من يشاء من ثروته أو يوصى لمن يشاء بها أو يتزوج أو يطلق، وبالتوازى مع هذا التوجه المتحرر أفتى الإمام بأنه يحرم على أصحاب الآبار أى المستحوذين عليها أن يمنعوا الناس عنها ولهم فقط أن يأخذوا منها ما يسد حاجاتهم، كما أفتى بتحريم تأجير الأرض الزراعية، وقال إن النظام الأمثل لاستغلالها هو المزارعة أو المشاركة، وهو ما جعل البعض يقولون إنه فى هذا التوجه «ينزع منزع الاشتراكية».
























الاكثر مشاهده

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

10 أسئلة وإجابات حول تعديلات قانون تملك الأجانب للأراضى الصحراوية.. برلماني

الشيخ العيسى: يمكن للقيادات الدينية أن تكون مؤثرة وفاعلة فى قضيةٍ ذات جذورٍ دينية

رابطة العالم الإسلامي تُدشِّن برنامج مكافحة العمى في باكستان

جامعة القاهرة تنظم محاضرة تذكارية للشيخ العيسى حول "مستجدات الفكر بين الشرق والغرب"

;