محمد الروبي يكتب: "شقراء" فيلم عن مارلين مونرو التي لا نعرفها

في فيلمه "شقراء" المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتبة (جويس كارول أوتس ) تعمد المخرج أندرو دومينيك أن يبدأه بالفلاشات الصادرة عن آلات التصوير تتخللها صور حقيقية معروفة ومشهورة للشخصية الرئيسية - مارلين مونرو - ومطعمة بمشاهد لتجهيزات تصوير الأفلام. هذا الاختيار للبداية في ظني هو بمثابة عقد اتفاق بين صانع الفيلم ومتلقيه حول : كيف سأتناول مسيرة شخصيتي الرئيسية وعند أي لقطة / مرحلة سأتوقف لا لأخبرك بقصة حياتها كاملة ولكن لأتأمل معك السؤال اللغز " لماذا انتحرت من ملأت الأرض صخبا وحصدت ما لم يحصده بشر من شهرة؟" . هذه البداية في ظني هي مفتاح فهم الفيلم أو للدقة فهم رؤية المخرج ومن قبله الكاتبة لا في حياة مارلين فحسب بل الأهم في النفس البشرية التي تقوم عليها الحياة بشكل عام. في الفيلم أيضا سيعتمد المخرج على الأبيض والأسود في تصوير وعرض كثير من المشاهد. ولك أن تتساءل لماذا بعض مشاهد بالأبيض والأسود في فيلم يحكي عن الماضي ؟ وخاصة أنها ليست مشاهد تتذكرها البطلة لكنها ضمن سياق الحدث الذي كان منذ قليل ملونا؟ لماذا إذن لم يصغ كليا الفيلم بهذه التقنية؟ الإجابة السهلة ( أنها تزيد من المخرج الذي يستعرض قدرات ما) وهي طبعا إجابة بائسة ( للاسف ذهب إليها البعض ). لكنني أظن أن هذه المشاهد هي بمثابة الخطوط الثقيله التي يضعها المخرج تحت ما يريد لك أن تنتبه إليه، فأنت ستفاجأ وانت تتابع مشهدا ما ملونا بأنه يتحول بمزج رقيق ناعم إلى الأسود والأبيض أو العكس. ومع تكرار هذا التحول لن يزعجك بل يكاد ألا يلفت نظرك فقد أصبحت الأن متفقا مع صانع الفيلم على هذه التقنية للدرجة التي تجعلك تتساءل ربما بعد انتهائك من المشاهدة (هل كان الفيلم كله أبيض و أسود أم بالألوان)؟. واذا كنا قد أشرنا إلى لقطات البدايات ووصفناها بأنها مفتاح فهم بناء الفيلم ( وقد جاءت جميعها بالأبيض والأسود) فالآن سيصحبنا المخرج مباشرة إلى مشهد أو مشاهد ملونة أصفها بأنها البوابة الأولى التي ستفضي إلى إجابة السؤال: لماذا انتحرت مارلين؟ (الفيلم يستبعد تفسير القتل المتعمد). وهي مشاهد تبدأ بمارلين - هي هنا ما زالت نورماجين- صغيرة تجلس بجوار أمها في السيارة تخبرها بأنها أعدت لها مفاجأة. المشهد التالي في منزلهما، الأم تحمل كعكة احتفاء بعيد ميلاد صغيرتها. لكن ليست تلك هي المفاجأة . المفاجأة تكمن في تصريح الأم وهي تشير إلى صورة رجل وسيم معلقة على جدار حجرة الطفلة حيث تقول لها الأم ( انظري يا نورما هذا الرجل هو والدك ) ! الآن فقط تعرف الصغيرة أن لها أبا وأنه سيعود حسب وعد الأم . وهو ما ستظل نورما طوال حياتها تنتظر عودة هذا الغائب. هذه المشاهد هي ما ستتحكم فيما بعد في ترتيب وتفسير مشاهد الفيلم كله ومن ثم تفسير شخصية مارلين التي تنتظر ذلك الأب بل وتتعامل مع كل رجل قابلته ووقع في غرامها باعتباره هو, فما الحب إذ لم يكن هو منبعه؟. وهو التفسير الذي سيؤكده لفظ (دادي) الذي تنطقه بحنان صادق تنادي به كل أزواجها وعشاقها. أهمية هذه المشاهد البدايات أنها ستفسر كافة اختيارات السيناريو لمحطات بطلته لتصل ذروتها مع مشهد النهاية حيث موت مارلين بعد أن اكتشفت بدليل لا شك فيه أنه لم يكن هناك أبدا ذلك الرجل الأب الذي كانت تنتظره. وفي هذا الإطار (إطار المفاتيح ) لابد ألا نغفل أن الفيلم مأخوذ عن رواية لا مذكرات. وهو ما يجعلنا نقبل أن الأحداث التي نشاهدها هي ابنة خيال كاتبة ومن بعدها مخرج رأيا أن هكذا دارت الأمور في الغرف المغلقة أو في عقول الشخصيات. وهو ما سيتجلى أكثر في العلاقة الثلاثية التي جمعت بين مارلين وابن شارلي شابلن المعروف باسم كاس وآخر هو ( إيدي) ابن الممثل ادوارد جي روبنسون. فالتاريخ يخبرنا أنه كانت هناك علاقة بين "كاس" ابن شارلي وبين مارلين ..لكن أحد لن يستطيع أن يجزم إن كانت العلاقة صداقة أم عشق أم شذوذ أم ..أم. وهنا يحق للكاتبة أن ترى ما تراه خاصة وأن كل هذه التفسيرات حول العلاقة ذكرت في شذرات صحفية وفي مذكرات البعض وفي أقوال عابرة. إذن أن تختار الكاتبة ومن بعدها المخرج شكل وحدود العلاقة لا يضير أي منهما، فهكذا رأيا وفقا لنهج اختاراه لا يستهدف التأريخ الموثق لحياة شهيرة بقدر ما يستهدف تقديم وجهة نظر في كيف يقضي الإنسان على أخيه الإنسان وأحيانا كثيرة عبر الحب الذي يفترض أنه باعث للحياة. أما لماذا كانت العلاقة ثلاثية لا ثنائية فهذا ما ستجيب عنه مشاهد ماقبل النهاية.. ما قبل الموت. ما انطبق على ابن شارلي يمكن تطبيقه على الرئيس الأمريكي . فالجميع يعلم أن الرئيس كان مرتبطا بعلاقة مع الأيقونة مارلين . بل إن بعض التفسيرات لموت مارلين المفاجىء يرى أنه كان بسبب هذه العلاقة وبيد المخابرات المركزية... لكن أحدا لا يمكنه أن يدعي معرفة ما الذي كان يدور ( تحديدا ) بين العاشقين في الغرف المغلقة .ومن ثم فاختيار الفيلم - من بعد الرواية - لهذه الطريقة المهينة والمذلة لمارلين من قبل الرئيس للدرجة التي تجعله يستدعيها عبر طائرة لتمارس معه فعلا شاذا وتسافر في اليوم نفسه هو اختيار يتسق والاختيار الأشمل الذي يمكن اختصاره في ( كل الرجال عشقوها ..كل الرجال قتلوها ). فحسب رؤية الفيلم كان عشاق مارلين هم في أعماقها بدلاء أب ..تنادي كل منهم بصدق حقيقي بـ ( دادي ), لكنهم جميعا خذلوها كما خذلها هو منذ أن كانت جنينا. لكن الفيلم وهو يدين عشاق مارلين لن يتغافل عن إدانة مارلين نفسها باعتبارها المستسلمة الخانعة البلهاء التي لا تتعلم من تجاربها . لكنه أيضا وهو يفعل ذلك لن يغفل عن الأسباب النفسية التي شكلت هذه الخانعة. بناء الفيلم- وأظن أن ذلك كان في الرواية التي لم اقرأها - اعتمد أسلوب ( المرايا المحطمة) شقفة من حدث تنقلك إلى شقفة أخرى إلى ثالثة ورابعة و... وربما نعود حينا إلى الشقفة الأولى لنراها أكثر وضوحا أو أكثف غيما ..وهكذا. بل إن فكرة المرآة المحطمة ستتجسد فعليا في أحد مشاهد الفيلم الذي يدور في بيت الزوجين ( مارلين وآرثر ميللر ). هناك سنرى مرآتها محطمة بعد غضب بسبب اجهاضها للمرة الثانية. تحطمت المرآة ولم يسع أحد أن يستبدلها أو يصلحها. بل وتظهر بوضوح في المشاهد وإن بدا أنه ظهور عابر. لكن كما علمتنا الافلام العظيمة لاشيء فيها بالمجان. تساءلت منذ قليل عن سر وقوف الفيلم متأملا عند العلاقة الثلاثية (مارلين -كاسي -ايدي). وهنا سنتوقف عند مشهد دال حيث يجتمع الثلاثي في حوار كاشف بعد لقاء حميمي يتساءل فيه كاسي بحزن ( ماذا ترين حين تنظرين إلى وجهي ؟ هل ترين ابن شارلي شابلن؟) ..تنفي مارلين ذلك بشدة وتؤكد أنها تراه هو . فيكشف لها عن مأساته : ( يظن الناس أنني محظوظ لأنني ابن شارلي شابلن.. لكننا ملعونين أنا وإيدي) ويضيف ايدي: ( نحن ابنا رجلين لم يرغبا فينا قط). هنا يكمن السر .. فكل منهم يحيا مآساة مع الأب،الأولى بجهلها عمن يكون أباها وبحثها الدائم عنه ومنح كل رجل تحبه صفته، والأخران يقيد كل منهما ظل أبيه المسيطر على واقعهما. وحين تقارن مارلين مأساتهما بمأساتها : (لديكما على الأقل والدين .. تعرفان على الأقل من أنتما ) يقول لها كاسي: ( لقد عرفنا من نكون قبل أن نولد ..أما أنت فلم تعرفي والدك قط ... فأنت حرة .. يمكنك أن تخلقين نفسك) . تخلقين نفسك !..يبدو أن ذلك ما فعلته نورماجين أو ما اكتشفت الأن أنها تفعله ..فتعبيرات وجهها مزيج من فرحة الاكتشاف وصدمة الحقيقة. تعبيرات لا تستطيعها الا ممثلة أظن أن فيلمها هذا سيكون بداية وقوفها على رأس القائمة ..اتحدث هنا بالطبع عن آنا دي أرماس. في مشهد تال مباشرة نرى مارلين- بالأبيض والأسود - تتحدث عن ( كاسي). بينما الصور تنتقل بينها و بين كاسي -تحديدا عيناه - وبين حريق منزلها حين كانت صغيرة. وصف مارلين لكاسي في هذا المشهد يفسر طبيعتها وخاصة في علاقتها بالرجال. تؤكد على معنى تكرر كثيرا في مراحل الفيلم المختلفة وهو أن الحبيب هو من كان الأقرب لصورة الأب التي رأتها على حائط غرفتها طفلة واكسبتها هي روحا و ملامح. في المشهد تجيب مارلين عن سؤال من شخص مجهول أو ربما من داخلها ( لماذا أحببت كاسي؟) فتقول: ( بسبب عينيه..كان يتمتع بأجمل عينين. عينان ساحرتان وحنونتان تلاحقانني من جدار شقة أمي القديمة ؟ ) بل وتضيف : ( لأنه كان يحبني كما لم يحبني أي رجل آخر وكأننا توأم في الروح) . هذه الجملة الأخيرة تحديدا هي ما ستفسر سر انهيار مارلين تماما في المشاهد الأخيرة من الفيلم بعد سماعها صوت ايدي عبر الهاتف يخبرها أن كاسي مات. مات من وصفته بتوأم الروح. بل وترك لها هدية أوصى بأن تصلها عقب موته. وكانت هي القشة التي قصمت ظهر مارلين تماما ودفعتها نحو هوة الانتحار, دبها القماشي القديم ومعه رسالة يعترف فيا كاسي أنه هو الذي كان يرسل إليها الرسائل الموقعة باسم أبيها ..إذن لم يكن هناك قط أبا يحاول أن يصل إلى ابنته وتمنعه الظروف!! هنا كان لابد لمارلين أن تموت بعدما قاست كل ماقاست من أجل وهم لن يتحقق أبدا. يبقى أن نقول إن فيلما تلك هي دوافعه ( الكشف عن دواخل شخصية ما كان يظن بشر أن تختار الموت طواعية ) استلزم طريقة خاصة في البناء أهم ملامحها هو التداعي الحر الطليق. يتخذ من قوانين الأحلام سبيلا لسرد بصري لا يستهدف الإدانة أو التبرئة بقدر ما يستهدف تأمل النفس ومن ثم تأمل الحياة.








الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;