طارق على يثير الجدل فى أوروبا بكتاب جديد عن "لينين"

"هل كان زمنا يتقدم قبرا قبرا أم كان زمن الاجتهاد للارتقاء بالإنسان من قيود الضرورة ليحلق فى ملكوت الحرية"؟!!.. هذا هو السؤال الكبير الذى يجتهد مثقفون كبار فى الغرب الآن فى محاولات للإجابة عنه بمناسبة حلول قرن كامل على الثورة الروسية وظهور ما عرف "بالاتحاد السوفييتى"، حتى دخل ذمة التاريخ فى مطلع تسعينيات القرن العشرين. ومن أهم المثقفين الذين يحاولون الآن الإجابة عن هذا السؤال الكبير والمتعلق بأحداث خطيرة وأيام فاصلة فى التاريخ الإنسانى المثقف البريطانى الجنسية والباكستانى الأصل طارق على فيما تتجلى جهوده الثقافية فى هذا السياق سواء عبر كتاب جديد، أو طروحات ومقالات ذات صبغة ثقافية عميقة فى صحف غربية كبرى. وفى كتابه الجديد الصادر بالإنجليزية بعنوان "معضلات لينين: الإرهاب، الحرب، الإمبراطورية، الحب والتمرد - القرن الأحمر" يثير طارق على جدلا واسع النطاق فى الصحافة الغربية والمنابر الثقافية عبر أوروبا والولايات المتحدة. وكذلك يبرز اسم طارق على فى صحيفة "نيويورك تايمز" التى شرعت فى نشر سلسلة طروحات بعنوان: "القرن الأحمر" حول تراث وتاريخ الشيوعية بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للثورة الروسية. وبين المذابح والحرب الأهلية التى أعقبت الثورة الروسية منذ نحو قرن كامل يحاول المفكر الباكستانى الأصل طارق على استكشاف التاريخ من جديد، أو القيام بزيارات جديدة لأحداث فاصلة فى رحلة المسير والمصير للأمم والشعوب. وسواء فى كتابه الجديد حول فلاديمير لينين أول قائد للاتحاد السوفييتى السابق أو طرحه ضمن سلسلة "القرن الأحمر" التى تنشرها صحيفة نيويورك تايمز ثمة جهد معرفى حافل "بعبر التاريخ" ليتزامن مع حلول الذكرى المئوية الأولى للأحداث الخطيرة التى تضمنت انفجار الحرب الأهلية فى روسيا بعد انهيار الإمبراطورية القيصرية الروسية والصراعات بين البلاشفة والمناشفة وما عرف بحروب "الحمر والبيض" وظهور الاتحاد السوفييتى الذى تحول بدوره لإمبراطورية شمولية تحت شعارات الاشتراكية وتنظيرات الشيوعية. وفى سياق هذا الجهد المعرفى لإعادة بناء التاريخ يتوقف المفكر الباكستانى الأصل واليسارى التوجه طارق على ليتأمل مليا تفاصيل دالة فى رحلة عودة فلاديمير لينين من المنفى فى زيوريخ إلى بلاده روسيا فى لحظات احتدمت فيها الحرب العالمية الأولى فيما كانت الإمبراطورية الروسية تقاتل فيها ضد ألمانيا التى يهمها بالتالى حينئذ خلخلة النظام القيصرى الروسى بكل السبل . ومدينة بتروجراد أو "سان بطرسبورج" كانت حاضرة بقوة فيما عرف "بثورة فبراير" عام 1917 والتى أدت لسقوط نظام القيصر نيكولا الثانى وتشكيل حكومة مؤقتة وبدء تفكيك الإمبراطورية الروسية وهى الثورة التى سبقت الثورة الروسية الثانية بقيادة البلاشفة فى شهر أكتوبر من العام ذاته لتفضى لظهور ما عرف بالاتحاد السوفييتى. وها هى صحف غربية كبرى تسهب فى عرض ونقد الكتاب الجديد لطارق على فضلا عن طروحاته التى تتزامن مع مئوية الثورة الروسية ويتعرض فيها لأيام عصيبة وخطيرة فى تاريخ روسيا وأوروبا والعالم ككل ما بين شهرى فبراير وأكتوبر من عام 1917 ونجاح الأفكار التحريضية لفلاديمير ايليتش لينين فى تغيير معادلات القوة على الساحة الروسية. وفيما افتقرت الأحزاب الليبرالية التى شاركت فى ثورة فبراير واشتركت فى الحكومة الروسية المؤقتة لوحدة الصف وقوة العزيمة لمواجهة البلاشفة بقيادة لينين يلقى طارق على أيضا بأضواء كاشفة على مواقف ليون تروتسكى زعيم فصيل المثقفين البلاشفة والتى لم تتفق تماما مع مواقف فلاديمير لينين. ولعلها كانت بداية الانشقاق الخطير فى الحركة الشيوعية فيما بعد عندما أمسى تروتسكى مطاردا كمنشق من جانب جوزيف ستالين خليفة لينين فى قيادة الاتحاد السوفييتى والذى فرض نظاما شموليا باسم الاشتراكية على الإمبراطورية الحمراء. ومع أن المفكر الألمانى كارل ماركس الذى قضى عام 1883 وتنسب له أهم أفكار الاشتراكية توقع بل ودعا للثورة الاشتراكية فى بلدان غربية متقدمة صناعيا مثل ألمانيا وفرنسا بل والولايات المتحدة، معتبرا أن معطيات هذه الثورة لا تتوافر فى البلدان المتخلفة اقتصاديا كروسيا حينئذ فإن لينين الذى قضى عام 1924 خرج على هذا التحليل للمفكر الذى ينتسب له ليقود ثورة تحمل أفكار ماركس فى بلد متخلف اقتصاديا ويهدم أركان الإمبراطورية القيصرية الروسية. وفى ظل هذا الانقلاب على فكرة رئيسة لكارل ماركس مضى فلاديمير لينين يغوى جماهير الشعب الروسى المنهك بالحرب والفقر بالثورة ضد النظام القيصرى رافعا شعار: "السلام والأرض والخبز" فيما ادعى بصورة لا تخلو من تلفيق أن تقويض الإمبراطورية الروسية يعنى "كسر السلسلة الرأسمالية العالمية فى أضعف حلقاتها" وأن إقامة دولة اشتراكية فى روسيا إنما تمهد السبيل لإقامة دولة مماثلة فى ألمانيا المتقدمة اقتصاديا . واللافت أن لينين راح يبرر هذا الانقلاب على فكرة رئيسة لماركس باستعارة عبارات أدبية وردت فى أعمال إبداعية خالدة مثل مسرحية "فاوست" للكاتب الألمانى الشهير يوهان جوته كعبارة "النظرية يا صديقى لونها رمادى أما اللون الأخضر ففى شجرة الحياة الأبدية". وواقع الحال أن لينين كان صاحب اهتمامات ثقافية لا ريب فيها وامتلك ذائقة أدبية وكان عاشقا لأدب جوته فيما عمد لاستعارة تشبيهات وشخصيات من روايات ومسرحيات شهيرة من عيون الأدب العالمى وهو يتحدث عن خصومه السياسيين. وفيما عرفت روسيا بأدباء ومبدعين كبار مثل تولستوى وجوركى ودوستويفسكى وبوشكين وجوجول وميخائيل شولوخوف يقول طارق على فى طرح بصحيفة الجارديان البريطانية إن الأدب شكل الثقافة السياسية للبيئة التى شب فيها لينين عن الطوق. وفى هذا الطرح الثقافى الذى تناول بعمق الأدب الروسى فى سياق تاريخى يبرز فيه اسم لينين اعتبر طارق على أن "مفهوم الواقعية الاشتراكية الذى ساد فى الأدب الروسى إبان سنوات طويلة من عمر الاتحاد السوفييتى السابق نال فى الواقع من جوهر الإبداع" كما أخفق النظام الشمولى السوفييتى فى تحقيق "حلم الانتقال بالإنسان من قيود الضرورة إلى براح الحرية". وفى الصحافة العربية يكاد يكون الكاتب اللبنانى سمير عطا الله، هو الوحيد الذى أشار لهذا الجدل الثقافى الغربى الحالى عبر زاويته فى صحيفة الشرق الأوسط التى تصدر بالعربية من لندن، حيث اعتبر هذا الكاتب المرموق أن "مشكلة الاشتراكية ظلت مع لينين نفسه" . وأوضح سمير عطا الله، وجهة نظره بالقول: "ففيما ظل فكر كارل ماركس قابلا للنقاش والتطوير والتحديث باعتباره قاعدة متحركة ظل فكر لينين وعنفه عبئا على الشيوعية التى ظلت تهترئ إلى أن انتهت". وقال هذا الكاتب المعروف باهتماماته الثقافية: "وكانت هذه مشكلة اليسار فى العالم العربى أيضا، القليل من العباقرة والمتقدمين وفرق طارئة من المهابيل المولودين تحت أبراج الحقد وفى بطون الخواء والسفه" فيما ذهب إلى أن من أسقط المعيات يسارية "لم يكن اليمين المعادى بل اليسار السخيف والمدعى". وفيما لفت إلى أن طارق على "من أشهر وجوه اليسار العالمى فى القرن الماضى ولا يزال إلى الآن فى مجلس إدارة مجلة اليسار الجديد" وهى مطبوعة تصدر بالإنجليزية ولها شهرة واسعة فى أوساط المثقفين اليساريين على مستوى العالم رأى سمير عطا الله أن هذا المفكر الباكستانى الأصل "لا يزال يكتب ويحاضر ويحلم وكأن اليسار فى بداياته" !. وأضاف سمير عطا الله مخاطبا قارئه: "بصرف النظر عن رأيك السياسى أو الفكرى فى نشوء وسقوط اليسار فإن طارق على من أفضل مفكريه وأكثرهم جاذبية" غير أنه استدرك قائلا: "ولن يعترف طارق على بأن لينين وصل إلى بطرسبورج لإطاحة القيصر الروسى على متن قطار وضعه تحت تصرفه القيصر الألمانى". وتابع فى زاويته بجريدة الشرق الأوسط قائلا: "من غير المفيد أن تناقش مفكرى اليسار العالمى فيما أطلقوا هم عليه الظروف الموضوعية لكن اليسار مثل اليمين كان محشوا بجميع الفئات: مرتقون وصفاه مثل طارق على وأدعياء مثل الأكثرية الساحقة". ومع ذلك فقد نوه الكاتب سمير عطا الله بأن اليسار أعطى فى الحقيقة أسماء فكرية تألقت خلال القرن الماضى مثل المفكرين والكاتبين الفرنسيين جان بول سارتر وريجيس دوبريه والمؤرخ البريطانى أريك هوبسباوم. و"الملاحظة على صمود طارق على فى خطه التاريخى" كما يقول سمير عطا الله "ليس أنه لم يلاحظ بعد خروج العصر من لينين أو خروج لينين من العصر وإنما فى أن فلاديمير ايليتش لينين لم يعد يخيف أعداءه ولا يجمع الأصدقاء من حوله.. فريقان يعاملانه كأنه ذكرى غير متفق عليها". وذهب الكاتب اللبنانى سمير عطا الله فى ختام طرحه الدال إلى أن "المرحلة برمتها قد انطوت، حزنا هنا وتشفيا هناك وثمة عالم بأكمله فى اليسار وفى اليمين لم يعد يعرف شيئا عن صاحب اشهر اسم فى القرن الماضى" أما طارق على فصاحب "أسلوب جذاب وسيرة مثيرة ويجيد تقليم التاريخ من فظاعاته". من جانبه، رأى طارق على أن ثورة أكتوبر فى روسيا، والتى افضت لحكم لينين "ربما كانت الانتفاضة الأكثر تنظيما وعلانية فى التاريخ" غير أن ثمن هذه الانتفاضة التى أفضت لحرب أهلية كان ملايين القتلى مع دمار مادى هائل فيما تكبدت الطبقة العاملة التى أطلق لينين ثورته باسمها خسائر فادحة كما تدنت ثقافة الحزب الشيوعى لمستوى بائس. ولم يفلح اعتراف لينين بهذا التدنى الثقافى وانحطاط الآداء فى أجهزة الدولة ولا اعترافه "بأخطاء الثورة وضرورة تجديدها حتى لا تفشل" فى إنقاذ الاتحاد السوفييتى فى نهاية المطاف من الانهيار فى مطلع العقد الأخير من القرن العشرين "بعد أن تراكمت جبال الأخطاء والخطايا". ويلاحظ طارق على أن روسيا ذاتها احجمت فى هذا العام عن الاحتفال سواء بمئوية ثورة فبراير أو ثورة أكتوبر فيما لم تعد هذه الذكرى مطروحة على أجندة الدولة الوطنية التى يقودها فلاديمير بوتين ولعل المفارقة أن الصحافة الغربية هى التى تحتفل الآن بهذه الذكرى وتسهب فى الحديث عن كتاب طارق على الذى يدور حول محور الذكرى !. وفى شهر مايو عام 2014 قام المفكر البريطانى الجنسية والباكستانى الأصل طارق على بزيارة للقاهرة لتشكل حدثا ثقافيا هاما بقدر ما أعادت هذه الزيارة للأذهان أفكار اليسار الجديد والجهود المتواصلة لمواجهة ما يعرف بأزمة اليسار فى العالم. ولعل من أهم أفكار "عراب اليسار الجديد" طارق على أن نهاية أى صراع أيديولوجى لا تعنى نهاية التاريخ وإنما تعنى أن الصدارة للثقافة وليس للسياسة أو الاقتصاد فيما سعى بخماسيته الكبيرة "الإسلام" والتى جاءت فى خمس روايات لدحض وتفنيد الاتهامات التى تواترت فى الغرب زاعمة أن الإسلام ناهض العلم ولم يترك إرثا حضاريا للإنسانية. وجاءت زيارة طارق للقاهرة من التاسع وحتى الحادى عشر من شهر مايو عام 2014 بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب "صلاح الدين" الذى يشكل بقالبه الروائى الممتع الجزء الثانى من "خماسية الإسلام" فيما تتجلى فى هذا الجزء عن أحد أهم رموز العالم الإسلامى وبطل الكبرياء "قاهرة صلاح الدين" بناسها وشوارعها . وهذا المفكر الباكستانى الأصل والبريطانى الجنسية مبدع متعدد القدرات فهو كاتب وروائى ومؤرخ ومنتج أفلام كما أنه أحد أبرز منظرى "تيار اليسار الجديد" وأحد أعضاء هيئة تحرير المجلة التى أسسها هذا التيار وحملت اسمه منذ عام 1962 فيما وصل لمنصب رئيس تحرير هذه المجلة البريطانية. وطارق على ولد يوم الواحد والعشرين من أكتوبر عام 1943 فى لاهور التى باتت عاصمة إقليم البنجاب الباكستانى له العديد من الكتب المهمة مثل "صدام الأصوليات: الحملات الصليبية والجهاد والحداثة" و"بوش فى بابل" كما أنه صاحب رواية "فى ظل شجرة الرمان" التى ترجمت أيضا للعربية وشكلت الجزء الأول من "خماسية الإسلام" وتناول فيها مأساة الأندلس. وعرف طارق على بانتقاداته الموضوعية لسياسات الهيمنة وبالقدر ذاته فإنه مناهض للتعصب والتطرف الدينى والنزعة الاستهلاكية وكان عضوا فى "محكمة جرائم الحرب" التى شكلها المفكر البريطانى الشهير برتراند راسل فى سياق مناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام. وفيما باتت كلية الاقتصاد اللندنية الشهيرة مركزا لأفكار اليسار الجديد، فإن طارق على أحد أهم منظرى هذا الفكر أصدر كتابه "صدام الأصوليات" عن أكبر دار نشر يسارية فى بريطانيا عام 2002 على وقع مأساة 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة بقدر ما جاء هذا الكتاب فى إطار مناقض للكتاب الشهير "صراع الحضارات" للمفكر الأمريكى صمويل هنتجتون. وكان طارق على أيضا ضمن من اعترضوا وتصدوا لما ذهب إليه المفكر الأمريكى واليابانى الأصل فرانسيس فوكوياما فى كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" فى عام 1992 أى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى ودخوله فى ذمة التاريخ بفكرة محورية فحواها أن الديمقراطية الليبرالية انتصرت وكتبت كلمة النهاية للصراع الإيديولوجى فى العالم كما أن هذا الانتصار حمل معه نهاية الأصوليات والقوميات. ولا ريب أن كتابه الجديد عن لينين فضلا عن طروحات طارق على، الذى ينتمى أصلا لعائلة من أعرق عائلات البنجاب فى باكستان وأكثرها ثراء، بمناسبة مضى قرن على الثورة الروسية تصب فى سياق المحاولات المستمرة للخروج مما يوصف بأزمة اليسار فى العالم والاستجابة لتحديات ومتغيرات جارفة فى سياقات العصر الرقمى . وإذا كانت الإشارة الساخرة للكاتب اللبنانى سمير عطا الله بشأن "طارق على ولينين معا" تعبر عن واقع الحال وأزمة اليسار فى العالم، فمن الصحيح أيضا أن ثمة حاجة جوهرية للتعرف على حكمة البسطاء فى الشارع وعدم الارتكان لدموع الذكريات كما ينادى طارق على، إنها محاولات جادة لالتقاط عبر التاريخ دون تغافل عن المستقبل وأنه حوار الأضداد الجديد حتى لا يموت المدى ويسود اللون الواحد.. إنها الدنيا التى تدور!.






الاكثر مشاهده

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

;