أمجد ريان يكتب: قراءة فى قصيدة "يَعمَلُونَ فِى البَحرِ" لعبدالرحمن مقلد

أولاً : النص: ــــــــــــــــ يَعمَلُونَ فِى البَحرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فى الحَقيقةِ لم نَكْترِثْ للمُلوكِ ولا للعَبيدِ ونَعملُ فى البَحرِ مُنذُ قَديمٍ..

.

ولا نتَمنَى نَهارًا يُضيءُ ولا مَنزِلًا نَستَقرُ بِه فالسَكِينةُ تَحمِلُنا كلَّ لَيلٍ طَويلٍ إلى كَهفِنا فى البَياضِ .

ولا نَتمرَّسُ فى الصَيدِ أو نَتبارَزُ من أجْل سَردينةٍ أو مَحَارٍ لنا الجُوعُ مُتسَعٌ والشَرابُ سيكفى الجَميعَ..

.

ومن حَظِّنا أنْ فقدْنَا خَيالاتِنا عن نِسَاءٍ عَلى الشَطِّ يَصنعْنَ غَزْلًا جديدًا لأنوالِهن ويُبقينَ قُمصَانَنَا فى الأَسِرَّةِ تَحْمِى رَوائِحَنا .

ولا نَتذَكرُ أبنَاءَنا فى البَرَارِى يَلوحُون أو يَهدِمونَ بُيوتًا مِن الرَملِ فى اليَابسِ الضَحلِ يَبكُون للبَحرِ حَتى نَعودَ..

.

القُساةُ إذَا يَحتَمونَ من الذِكْرَياتِ بقَرع رُؤوسِهمُ فى الحِجَارِ وإفِراغِ أَعيُنِهم فى الصِحَافِ ليَأكُلها الانتِظَارُ وتَنعَدمُ الرُؤيةُ المَخمَلِيَّةُ للغَدِ .

لا يَجرحُون بَديهَتَهم بالسُؤَالِ ولا يَخمدُون عَلى الرَملِ فى اللَيلِ يَكتشِفونَ المَآلَ الذى يَرحَلُون إليه ولا يَرْسُمون مَصَائِرَهم عُنوةً .

وأرواحُنا تَتشَهى البَقاءَ البَقَاءَ فَقطْ دون لونٍ يُعرِّفُها كيف تَهفو لشىءٍ وكيف تميلُ..

.

لا ضَيعَةٌ فى الرَحيلِ ولا نَتبدَّلُ فى الطَقْسِ كُلُّ المَواسِمِ تَبدُو كَذَلِكَ عَادِيةً والنُحُولُ..

النحولُ الذى نَتبَدَّى بِه لا تُشَارُكَنا الجَاذِبيَةُ فِيه .

وأمَّا المَجَازُ فأَلقُوه هذَا الهُلامِيَّ للحُوتِ..

لا وَقتَ للأُبَّهَاء الذى يَفْتِنُ القَلْبَ أو يَأخُذُ الرِئتَين بتَنْهِيدَةٍ ويُدَاوى الجُرُوحَ .

وهَذا الغِنَاءُ ليَبقَ عَلى الصَّخْرِ مُتَكَأ للعَواطِفِ والهَذَيانِ الجَمِيلِ .

أزيلوا مِن اللُغَةِ البَضَّ مِنها وأَبْقُوا الهَزِيلَ..

أزِيلُوا: العِتَابَ.. الضَواحِي..

.. الحَرِيرَ.. السَمَاء.. الليَالي الورُود.. الَبنات..

الظِلالَ.. التِلالَ.. الحَنَانَ.. الخُمُول .. .. .. .. ..

.. .. .. .. ..

.. .. .. .. ..

وأَبْقُوا الهَزِيلْ..

.

. ـــــــــــــــــــــــــ ثانياً : القراءة هى القصيدة الأولى فى ديوان "مَسَاكِينُ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ" ، وهى تعبر عن حساسية ورقة مفرطة لدى الشاعر، ويمكن أن نرصد التوجه الرمزى لهذه الكتابة، ولازالت الرمزية لها مكان فى الكتابة العربية بشكل عام. وبداية من تصدير الديوان نستشعر أن المساكين الذين يعملون فى البحر هم البشر جميعاً، وأن البحر هو عالمنا الصاخب بالأحداث والأزمات والإحباطات. ومن الفقرة التى أوردها الشاعر عن نص لـ"ريتسوس": (صيادون عجائز/ لم يعد لديهم قوارب، لم يعد لديهم شباك/ يجلسون على الصخرة ويدخنون غلايينهم/ يتأملون أحزان الترحال والظل) نحس أن البشر جميعاً صيادون عجائز بؤساء، لا يملكون أى شىء فلم يعد لديهم قوارب، ولم تعد لديهم شباك، ولا يملكون سوى أحزانهم التى لانهاية لها. وواضح هنا البعد الرمزى الجمالى الجذاب، ثم يورد الشاعر مقطعاً لـ"جورج ديهامل" من "اعتراف منتصف الليل"، يؤكد حالة البؤس الإنسانى، وإن كان هنا قد اختص بمن يمتهنون بمهنة الكتابة: (وأنا كما ترى أقرب إلى الطول والنحول وقد قوست ظهرى مهنة الكاتب واحتقار الرياضة البدنية وأقف بشيء من الميل ـ كما تقول أمى ـ وحين أقرأ وأنا جالس القرفصاء على كرسى الذى لا مسند له أحس أن كل نَقْصٍ فى مظهرى العادى يزداد شناعة: فأنا أتداعى وأنكمش، وكأن حياتى تهرب وتغادرنى لتذهب مع حياة أولئك الرجال والنساء الذين أشاطرهم بفكرى وقائعهم الغريبة..) .

والتعبير من خلال المنطق الرمزى هو وسيلة مليئة بالحيوية الشعرية ، للتوحيد بين رغبة الشاعر الداخلية والعالم الخارجى . وهناك تواصل رؤيوى بين حياة البشر بشكل عام منذ بداية الوجود البشرى من ناحية وبين حياة البحارة الموزعين فوق ماء البحار منذ الأزمنة القديمة ، من ناحية أخرى . البحارة الغارقين فى ظلام متصل فى ليلهم الطويل ، البحارة غير المتمرسين ، وهم الراضون الوادعون راضون بجوعهم المتسع ، هادئون مسالمون لايتصارعون ولا يتبارزون . والمعنى يرمز مباشرة للفقراء الوادعين المغلوبين على أمرهم. ثم يورد الشاعر مقطعاً أليماً يبرز حالة الفراق بين البحارة ونسائهم لفترات زمنية مفرطة فى طولها، حتى فقد البحارة تخيلاتهم وخيالاتهم النسائية، وأبقت النساء قمصان أزواجهن فوق الأسرة لتبقى روائحهم فلا تضيع من أنوفهن، لأن تلك الروائح هى الشىء الوحيد الباقى. والمقطع برغم واقعيته التى تبين حالة الافتقاد المتبادل بين البحارة وزوجاتهم ، لكنه يرمز بقوة فى الوقت نفغسه لوضع فقراء العالم بشكل عام ، وهذا الحس اليقظ يؤكد أن الأسلوب الرمزى يمثل محاولة شاعرنا لالتقاط الرؤية التى تعينه على تضفير رؤاه الذاتية وأحاسيسه شديدة الخصوصية فى النص، كما أن هذا الأسلوب الرمزى يظهر انحيازه لأزمات البسطاء فى كل مكان . وهكذا يستخدم الشاعر المنطق الرمزى لكى يفتح الطريق ممهداً لأفكاره الذاتية العميقة التى تعبر عن انحيازه الإنسانى لكى تتفاعل مع المتلقى وتصله كرسالة محددة. ويمعن الشاعر فى إبراز قسوة الفراق وترك البيوت لأزمنة طويلة، فالبحارة صاروا لايتذكرون أبناءهم، فقد تركوهم فى البرارى تائهين بين الرمال، يبكون فى انتظار أبائهم الغائبين . والرمزية فرصة لتشغيل الخيال بدرجة عالية، والخيال بالطبع تكون له قيمة كبيرة فى التعبير الشعرى بشكل عام ، لأن الشعر يتطلب الإيحاء، والخيال تربة ثرية لبث الإيحاء، فيتخيل الشاعر موقف أبناء البحارة الغائبين زهم يبكون ويضربون رؤوسهم فى الأحجار ألماً، ليأكل الانتظار عيونهم فتنعدم "الرؤية المخملية للغد" وهو تعبير بالغ الشعرية حول حلم اللقاء بعد الحرمان الطويل. وعندما يكتشفون المآل الذى يرحلون إليه فهم يكتشفون المآل الذى ترحل إليه البشرية كلها، مآل الآلام والياس العتيد .

وعندما يبدأ أحد المقاطع بكلمة (أرواحنا) يتضح البعد الرمزى بقوة، فكل هذه المشاعر التى يكابدها البحارة وأولادهم هى المشاعر التى نكابدها نحن جميعاً، وعندما يتشهى البحارة البقاء فى أوطانهم وفى بيوتهم، فنحن أيضاً نتشهى البقاء متحققين من خلال أحلامنا وطموحاتنا كآدميين. ومن خلال الترميز يتمكن الشاعر من بث الروح الجمالية وإشاعتها فى النص، وهومغرم بالمجاز، وبقدرته الإيحائية، لذلك فهو من المؤمنين بالطاقة السحرية للغة، هذه الطاقة التى تعيد صياغة الوجود ، فالأرواح لديه هى التى تتشهى، و(النحولُ الذى نَتبَدَّى بِه لا تُشَارُكَنا الجَاذِبيَةُ فِيه). هو شاعر مجازى بالدرجة الأولى حتى لو طلب أن يتخلصوا من المجاز ويلقوه للحوت، وحتى أسلوب التخلص من المجاز هو نفسه أسلوب مجازى . وفى صورة مجازية رمزية رائعة يحلم أن يظل الغناء باقياً على الصخر ، ليبقى ملاذاً ومتكأً لعواطف البحارة وهذياناتهم ، أو أحاسيس البشر وأحلامهم. ثم ينهى الشاعر قصيدته بمقطع متفرد يطلب فيه أن يزيلوا من اللغة البضاضة ، ويزيلوا الضواحى الجميلة التى عشنا فيها أجمل أيامنا ، ويزيلوا الحرير والسماء والليالى والورود والبنات والحنان ، وكل التفاصيل الجميلة الحبيبة التى عايشناها وعشقناها، يزيلوا كل هذا ويبقوا الهزيل ، لأن هذه التفاصيل هى التى تعذب القلوب وتشعرنا بالمزيد من الحرمان فى كل يوم .. وياله من ملب يعبر عن الرقة المفرطة والحساسية بالغة الرقة. لقد اختار الشاعر نهجاً جمالياً رفيع المستوى وجعل المنطق الرمزى طريقاً أساسية من طرائقه التعبيرية، لكى يتمكن من طرح مايجيش فى نفسه من حالات انفعالية حميمة، محملة بالدلالات والرسائل التى يوجهها لعالم صارم يحاصرنا بالقسوة والحرمان وبإجبارنا على عدم التحقق.








الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;