حــســــن زايـد يكتب: أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك؟!

آفة هذا العصر والعصور التالية له أن صناعة النجوم أصبحت صناعة ميسورة، حيث تُجرى صناعتها من مواد مخلقة، تم تركيبها فى المعامل، وفق معادلات كيميائية محددة. جرى تغطيتها بمواد مخلقة أخرى؛ للتزين، وإبراز جوانب الجمال المصطنع فيها، وهو جمال يقوم على الإبهار، وتعمية العين عن التذوق الجمالى، بعيداً عن الإحساس بعمقه، حيث للجمال تداعياته داخل النفس البشرية. وصناعة المفكرين والكتاب فى هذه الأيام على شاكلة صناعة فوانيس رمضان الصينية، والزهور والورود الصناعية، يبهرك شكلها، ولكنها عديمة الرائحة. وقد عمقت ثورات الربيع العربى هذه الصناعة، حيث أسهمت فى خلق المزيد من التسطيح، والتهافت بأن أبرزت طائفة أخرى، أصبحت عبئاً ثقيلاً على الفكر، وهى فئة النشطاء بشقيها: الحقوقى والسياسى. دعك من الحالة التى يظهرون بها على الشاشة الفضية، حيث الانتفاخ والكبر والتنطع، ثم الاستفزاز والتسلط والقهر، فكل ذلك يمكن التغاضى عنه. وإنما تحاول جاهداً أن تجد فكراً مترابطاً موزوناً رصيناً مستنداً إلى مبدأ، حتى يمكنك الإمساك به، والاختلاف أو الاتفاق معه فلا تجد نوع من المفكرين والمنظرين والكتاب ممن عقولهم فى آذانهم، ويتعاملون معك بتأفف من ملك نواصى الحقائق، ولم يدع لغيره منها شعرة يتعلق بأهدابها، لزوم المحافظة على شكل الحوار المتوهم بين متناظرين. فتجد أحدهم فى معرض دفاعه عن الحريات، ينطلق من منصة إطلاق التهم بأجهزة الدولة، أنا هنا لست فى معرض الدفاع عنها ـ منكراً عليها إلقاء القبض على ثوار يناير، أو ثوار يونيه، ممن اقترفوا جرائم يعاقب عليها القانون. وكأن كون الشخص ثائراً فذلك يعفيه من المحاسبة والمساءلة عما تقترفه يداه، فى حق الدولة والمجتمع. أو أن الثورية هى شهادة براءة مسبقة من المعاقبة على مخالفة القانون. فتجد أن الدولة من وجهة نظرهم قد ارتكبت جرائم مخالفة الدستور، وانتهاك القانون، وممارسة التقييد على الحريات، والكبت والقهر، والردة على الثورة، وعودة الممارسات البوليسية القمعية. والبعض الآخر يرى أنهم شباب طاهر عفيف من الممكن أن يكون قد غرر به، وأن هذه الإجراءات من شأنها العصف بمستقبلهم الباهر، وأنه يتعين العفو عنهم، واحتضانهم واحتوائهم لأن مصر فى حاجة إليهم. مع أنك لو بحثت فى حقيقة الأمر لوجدت أن الأصل فى تصرف الدولة حيالهم هو القانون ـ بغض النظر عن موقفك منه ـ وأنهم يجرى حبسهم على ذمة القضايا بقرار منفرد من النيابة العامة، ويحاكموا وفقاً للقانون والدستور. وأن القاعدة القانونية عامة ومجردة، وأن الأحداث -الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد- لهم قانون يحاسبهم على جرائمهم. فمن يكون فى موقع اللوم والمساءلة والاستهجان، من طبق القانون أم من يكون فى موقع المطالبة بمخالفته؟. إنهم يسعون إلى دغدغة مشاعر الجماهير وأولياء أمور هؤلاء الشباب وعوائلهم بغير حق. مع خالص تعاطفى وإشفاقى على هؤلاء الشباب، وحرصى على مستقبلهم. وكذا تعاطفى الشديد مع ذويهم، الذين اقتحمت نفوسهم الأحزان ـ رغماً عنهم ـ وأثقلت كواهلهم الهموم، وطاردهم عنوة الإحساس بالقهر، نتيجة ما لحق بأبنائهم من تقييد للحريات، وإقصاء عن الأسرة والمجتمع والحياة. كل هذه الأمور على العين والرأس وفى سويداء القلب. ولكن دولة القانون هى المخرج الوحيد مما نعانيه. هذا عن مفكرى اليوم. فتعالى ننظر فيما قاله مفكرى الأمس، ولنأخذ العقاد نموذجاً، والعلة وراء اختياره أمران: الأول أنه الرجل الذى سجن بسبب موقفه السياسى، حين وقف تحت قبة البرلمان ليقول: "ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته". وقد عوقب بالسجن بتهمة العيب فى الذات الملكية، ولكن من أجل ماذا؟. من أجل صيانة الدستور وحمايته. الثانى أن العقاد كمفكر لا يشق له غبار، له موقف فى العلاقة الجدلية بين الحرية والجريمة، فالحرية لديه مطلقة، ما دامت الجريمة مقيدة. ومعنى ذلك أنه إذا أطلقت الجريمة فلا حرية. يقول سامح كريم عن العقاد فى كتابه: العقاد فى معاركه السياسية، فى معرض شرحه لهذا الكلام: "ولا حرية لأحد إذا تيسرت للجريمة أسبابها، وتعذر على حراس الأمن والقانون أن يتعقبوها، ويتخذوا العدة لمنعها قبل انطلاقها، وإذا صدق هذا على كل جريمة، فهو أصدق ما يكون على الجريمة الكبرى التى لم تعرف مصر مثيلاً لها فى تاريخها. ولعلنا لم نعرف لها مثيلاً فى التاريخ الحديث بين أمم العالم قاطبة. جريمة لا تقنع بما دون قلب الدولة كلها. والغلبة على مشيئة الأمة بأسرها. لا تقيم وزناً للأرواح لأن المبالاة بالأرواح ـ تنطع ـ فى رأى أولئك الزعانف الذين حدثتهم نفوسهم بتدبيرها وتنفيذها. لا تقيم وزناً للحرية فى حق من حقوقها أو فى واجب من واجباتها". وهنا يثير العقاد تساؤلاً غاية فى الأهمية حين يتساءل: "فهل حرية المجرمين فى العبث والفساد أغلى على العابثين المتباكين من مستقبل يضيع على عشرات الألوف من ناشئة الأمة وعتاد الملايين من الأباء والأمهات؟". وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الكلام صادراً عن أحد أساطين الفكر الليبرالى فى مصر. وقد وصفه الروائى العالمى نجيب محفوظ بقوله: "إنه الحرية بكل ما تعنى من أبعاد"، والحقيقة أن هذا الوصف منصف للعقاد لأنه باسم الحرية والمطالبة بها جاع وشقى ودخل العديد من المعارك وسجن. فهل بعد كلام العقاد من أحد يزعم أنه مفكر أو كاتب أو ناشط، يطالب بالإفراج عن مجرمين تحت أى زعم من المزاعم، متجاهلاً فى ذلك حرية الآخرين فى ممارساتهم لأعمالهم المنوط بهم تنفيذها؟ !. لا أظن.



الاكثر مشاهده

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

بدعوة من دولة رئيس الوزراء الباكستاني.. العيسى خطيباً للعيد بجامع الملك فيصل فى إسلام آباد

علماء العالم الإسلامي يُرشحون مركز الحماية الفكرية لإعداد موسوعة عن "المؤتلف الفكري الإسلامي"

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

10 أسئلة وإجابات حول تعديلات قانون تملك الأجانب للأراضى الصحراوية.. برلماني

;