كثيرون يطلقون على أنفسهم لقب مثقف، لأنهم متخصصون فى أمر ما أو شىء ما، يعرفون مثلا كيف تلد الحيتان، وحجم أعضائها التناسلية، وقدرتها على التنفس تحت الماء، إلخ إلخ إلخ.
كثيرون أيضا يطلقون على أنفسهم لقب مثقف، لأنهم غير متخصصين على الإطلاق، يعرفون شيئا عن كل شىء فيحسبون أنفسهم على قدر كبير من الثقافة، فى الموسيقى يطنطنون بأسماء كثيرة، بيتهوفن، موتسارت، باخ، أيدن، شوبان، يحفظون قصة من هنا وقصة من هناك، يحفظون حفنة من أبيات الشعر، وطرفة عن شاعر هنا وروائى هناك، فى التاريخ يحتفظون بالنكات، فى الرياضة، يبهرونك بقصة المشير عبد الحكيم عامر ونادى الزمالك، فى السياسية الخارجية يصدعونك باتفاقية أسلو، واتفاق غزة أريحا، فى السياسة الداخلية يخبرونك عن حركة القضاء وتنظيم حدتو، وما أن تراهم حتى يعيدوا عليك كل ما قالوه فى المرات الأولى، وإذا ما فاجأت أحدهم بسؤال يتوغل قليلا بعد السطح، يضربون أخماسا فى أسداس.
لا الأول مثقف ولا الثانى كذلك، الأول متخصص، مثل مثل الميكانيكى، مثل السباك، مثل الطبيب، لكن حظه أوقعه فى تخصص على قدر من الجاذبية، فصار يطنطن به فى كل مكان، مستعرضا بما يملك من معلومات، أما الثانى، فهو مبتدئ إن لم يكن أفاقا، ولا أريد أن أقول نصابا، لماذا؟ لأنه اكتفى بما يملك من معلومات تؤهله للفوز فى مسابقات المعلومات العامة وحل الكلمات المتقاطعة، وهو أمر أبعد ما يكون عن الثقافة، لأن الثقافة إن لم تكسبك هوية عقلية تثرى ذهنك وتنميه وتجعله قادرا على تجديد نفسه بنفسه واكتشاف آليات التفكير، واتباع قواعد الاستقراء والاستدلال والاكتشاف، لكن هذين الصنفين من المزيفين لا يقاس حجم خطورته إذا ما قارناه بالصنف الثالث.
الصنف الثالث من المزيفين هو ذلك الذى يوهمك بأنه تعلم وفكر وتدبر من أجل الوصول إلى حفنة مبادئ فقدسها وتعصب لها، ومضى يشهر سلاح الاتهام بالجهل والرجعية فى وجه أى شخص لا يعتقد بنفس ما يعتقد، والحقيقة وراء هذا الشخص أنه لم يفكر ولم يتعلم ولم يتوصل إلى حقيقة ما ثم اتبعها، هو تكيف مع منظومة قيمية فحسب، لأنه ببساطة وجد نفسه على هذا الحال ثم انتقى من الأفكار اللامعة ما يناسبها، فدفاعه عن هذه الفكرة هو فى الحقيقة دفاع شخصي، وإيمانه بهذا المعتقد هو فى الأصل إيمان بنفسه، الملحد الذى يسخر من ديانات الآخرين مزيف وليس مثقفا لأنه لا يؤمن بحرية العقيدة التى ينادى بها، مثلى الجنس الذى يناصر قضايا المثليين لا يؤمن بالحرية الجنسية بل يؤمن بمسارات شهوته، بدليل أنه يهاجم فى كل وقت منظومة الزواج المتبعة، الناصرى الذى ما عاداه، والوفدى الذى لا يرى إنجازات ثورة يوليو، فقط حاول أن تقيس على هذا القياس، واكتشف كم تزخر حياتنا بالمزيفين.