التواصل مع الآخر فريضة دينية وضرورة حضارية

المجتمعات الإنسانية والحضارة عمومًا ديناميكية متفاعلة، لا تعرف الجمود أو العمل فى معزل عن الآخرين، والتاريخ الطبيعى يؤكد أن المجتمعات المنعزلة تتأخر، والدليل على ذلك ما نشاهده فى مجاهل أفريقيا أو أستراليا أو الأمريكتين من تجمعات القبائل البعيدة عن الاتصال بحركة الحضارة العالمية، إنها مجتمعات مغلقة تكاد تنقرض بسبب عزلتها وعدم تواصلها مع الآخرين، وذلك ينطبق على مفردات الحضارة كلها، من لغة وثقافة وفكر وفن وأديان كذلك، وما يمكِّن لهذه المفردات من النمو والبقاء هو تواصلها الداعى إلى تجديد التيار فيها، ولولا ذلك التواصل لما حصل تجديد لها ولا حياة. ولو أننا أمعنَّا النظر فى تاريخ حضارتنا ووضعنا أيدينا على ذروة النضوج فيها لوقفنا على سبب ذلك النضوج بغير عناء، لقد بلغت الحضارة الإسلامية أوج ازدهارها فى العصر العباسى الأول؛ الذى اختلط فيه المسلمون بالحضارات الأخرى وانتشرت حركة الترجمة، وأنشئت المكتبات برعاية الخلفاء كبيت الحكمة الذى أنشأه الرشيد وازدهر فى عصر المأمون على وجه الخصوص، حيث ترجمت من خلاله كتب اليونان والفرس وغيرهما من الأمم فى الطب والهندسة والفلك والنجوم والآداب والفنون، وخصص الخليفة لها مترجمين يشتغلون بترجمة الكتب المختلفة من الحضارات المجاورة إلى العربية، وتحولت من مجرد خزانة للكتب القديمة إلى بيت للعلم ومركزًا للبحث العلمى والترجمة والتأليف والنسخ والتجليد، وأصبح لبيت الحكمة دوائر علمية متنوعة لكل منها علماؤها وتراجمتها ومشرفون يتولون أمورها المختلفة، وانعكست هذه الحركة العلمية والاتصال بالأمم الأخرى على الثقافة العربية الإسلامية فى كل مجالات الفكر والثقافة، ومثلت نقلة محورية فى تشكيل الصورة النهائية للحضارة الإسلامية، وعملت فى الأخير كجسر مكَّن للتيار العام للحضارة الإنسانية من الاتصال، حيث أحيت تراث الأمم السابقة وأضافت عليه، ثم نشرته مراكز الحضارة الإسلامية كبغداد والقاهرة والأندلس فى أنحاء العالم. ولوقت قريب كانت جامعات أوروبا تحتفى بإنتاج الحضارة الإسلامية وتشهد لعلماء المسلمين بالفضل فى نقل وتأسيس كثير من فروع العلم التى استلهمتها أوروبا فى نهضتها الحديثة. إذن، لم نكن غرباء يومًا ما عن الحضارة الإنسانية، ولم نشهد هذه العزلة التى قضت علينا بالتأخر إلا فى عصور متأخرة، يمكن أن نرجعها إلى عامل الاحتلال بداية من جاثوم العثمانيين الذى أطبق على صدر العالم الإسلامى لقرون طويلة بداية من القرن السادس عشر، ولم نستفق منها إلا على ضربات مدافع الفرنسيين أواخر القرن الثامن عشر ثم الإنجليز فى بداية القرن العشرين، ولولا حركة التحديث التى انتهجتها مصر وقادت العالم العربى بالتبعية إلى انتهاجها لكنَّا مكبلين بقيود الرجعية والتخلف التى قعدت بنا عن ركب الحضارة قرونًا طويلة. ثم تلت موجة التحرر من الاستعمار موجة من الأصولية الدينية تقودها جماعات اعتادت العمل تحت الأرض، ولم تعتد عيونها على نور الحضارة، ولم تعرف التواصل مع الإنسانية، وعزمت على الرجوع بالمجتمع المصرى الذى تفتح وعيه واتصل بالعالم إلى عصورها الحجرية وجحورها الأرضية، ولعبت على وتر العاطفة الدينية وزعمت أنها بصدد استعادة الخلافة الإسلامية التى كانت تحمى بيضة الدين وتدفع عن الإسلام غوائل المعتدين، وحاولت العبث بالوعى الجمعى تحت زعم العودة للعصر الذهبى للخلافة، فى حين أنها لم تكن حتى تمتلك رؤية لما زعمته مشروعًا للنهضة، ولم تقدم للناس غير أسباب الاحتراب التى منَّ الله على المصريين بتجنب ويلاتها والنجاة من شرورها، ولولا يقظة الشعب وبصيرته لارتكس فى هذه الفتنة التى حاقت بشعوب عربية نرجو الله أن يمكن لها الخلاص منها. لقد استعاد الشعب المصرى وعيه واستفاد من تجربة الماضى المتمثلة فى جاثوم الاحتلال خاصة العثمانى الذى عزل الشعوب العربية عن الاتصال بالعالم لصالح خلفاء العثمانيين، كما استفاد من تجربة الحاضر المتمثلة فى محاولة العبث بالوعى عن طريق جماعات تزعم استعادة العصر الذهبى للخلافة، ولا تراعى متغيرات الزمان والمكان، وتطور طرائق الحكم وأشكال الدول، وتطور الوعى الإنسانى بشكل عام. إن الدعوة إلى التواصل مع الآخر فريضة إسلامية؛ كونه الوسيلة العصرية للدعوة إلى الإسلام وإظهار سماحته، فالإنسان عدو ما يجهل، وجهل الآخر بسماحة الإسلام أو تشويه وعيه بسبب أعمال الإرهاب لمنتسبين إلى الدين الحنيف مدعاةٌ للخوف منه أو معاداته فيما يعرف بالإسلاموفوبيا، ولا سبيل إلى تعريف الآخر بالإسلام أو تعديل وجهة النظر فيه بغير التواصل معه لبيان حقيقته التى غيبها المتشددون بأعمالهم الإرهابية. كما أن الدعوة إلى التواصل ضرورة وجودية؛ كونه يمكن من التعاطى مع الآخر والاستفادة مما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من منجزات تسهل على الإنسان العيش وتسمح بتطور حياته بمختلف نواحيها، ولولا ذلك التواصل مع الآخر فإن مصيرنا لن يعدو ما آلت إليه المجتمعات المغلقة المنعزلة عن ركب الحضارة والتطور الإنسانى.



الاكثر مشاهده

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

10 أسئلة وإجابات حول تعديلات قانون تملك الأجانب للأراضى الصحراوية.. برلماني

الشيخ العيسى: يمكن للقيادات الدينية أن تكون مؤثرة وفاعلة فى قضيةٍ ذات جذورٍ دينية

رابطة العالم الإسلامي تُدشِّن برنامج مكافحة العمى في باكستان

جامعة القاهرة تنظم محاضرة تذكارية للشيخ العيسى حول "مستجدات الفكر بين الشرق والغرب"

;