سَنَة جديدة وبشارة بسَنَةِ الرب المقبولة

لم يكن العالم الذي ولد فيه السيد المسيح عالمًا سعيدًا، ولم يكن طريقه ممهدًا ومفروشًا بالزهور. بل وُلد المسيح في أشد بقاع العالم قسوةً، وفي أكثر الأزمنة ظلامًا. ولد في وسط شعبٍ يرزح تحت وطأة مستعمر روماني قاسٍ، وظلم وقهر يسودان المشهد الاجتماعي. حتى أن الإنجيل يصف حالة الشعب بأنه "كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا". وقد كان الأنبياء في العهد القديم دائمًا ما يربطون بين مجيء السيد المسيح وزمن رد كل شيء إلى أصله. فالفكرة ببساطة هي أن مشكلة الإنسانية الدائمة هي الانكسار الموجود في العالم: الظلم، الفقر، المرض، الخداع والاغتصاب... إلخ. وهذه الظواهر تعكس الشر الموجود في العالم، لهذا فالدور الرئيسي الذي يلعبه المسيا هو أنه سيرد كل شيء إلى أصله، أي سيصحح كل شيء. لذا حين ولد السيد المسيح بشرت الملائكةُ مجموعةً من الرعاة البسطاء، الذين كانوا يسهرون ليحرسوا أغنامهم، قائلين: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ". لقد كانت بشارة "المجد، والسلام، والمسرة" تعني الكثير لهؤلاء البسطاء. فهذه المشاعر الإيجابية كان نادرةً وشحيحةً في زمان الظلم والفقر والحزن. وعندما بدأ السيد المسيح خدمته الجهرية، ذهب أول ما ذهب إلى بلدته التي نشأ وترعرع فيها، ودخل المجمع، وأخذ يقرأ من نبوة إشعياء النبي: "وحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ" (إنجيل لوقا 4: 18). لكن السيد المسيح لم يقف عند تلاوة هذه الكلمات النبوية، بل أضاف قائلًا: "إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ". لكن للأسف لم يهتم كثيرًا أهل مدينته بهذه البشارة لدرجة أنهم كانوا يريدون قتله بإلقائه من فوق الجبل. وللأسف فإننا كثيرًا ما نفعل هذا أيضًا تجاه بشارة السماء لنا؛ نرفضها. تخبرنا بشارة السماء بمعادلة بسيطة ومنطقية: إن عشنا وسرنا طبقًا لقواعد السماء، فالنتيجة المحتومة أننا سنتمتع ببركات وخيرات السماء. ورغم أن زيارة السيد المسيح الأولى في خدمته الجهرية لاقت الرفض، إلا أنه استمر مُقدِّمًا رسالته، فنجد البشير متى يخبرنا: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا" (إنجيل متى 9: 35). لذا فحين أرسل يوحنا المعمدان ليسأل إن كان يسوع هو المسيح المنتظر، أم لا، أجاب يسوع التلميذين قائلًا لهما: "اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ" (إنجيل لوقا 7: 22). نعم... كان السيد المسيح صانعًا للمعجزات، شفى عميانًا وعرجًا وبرصًا، بل وأقام موتى. كان له أن يستغل ذلك ليصنع لنفسه شعبية، فيجمع الشعب خلفه ويصنع من نفسه بطلًا شعبيًّا، وإن فعل هذا لن يلاقي لومة لائم، لكنه استمر في تقديم محبة الله للجميع، لم يفرق بين غني وفقير، أو بين رجل وامرأة، أو حتى بين يهودي وامرأة كنعانية، لقد قدم السيد المسيح المحبة الشاملة للجميع، مهما كان فسادهم وشرهم، مهما كان لونهم أو عرقهم. وإذ نحتفل بميلاد السيد المسيح، ونحن نخوض ظروفًا قاسيةً تعيشها البشرية جمعاء، علينا أن نقف أمام هذه الذكرى الملهمة، لنفكر ونتأمل مليًّا فيما يمكن أن نتعلمه من حياة السيد المسيح، حياة التواضع والبذل، والحب غير المشروط، وتقديم العون والخير للجميع أيًّا من كانوا، فنحن حقًّا في أشد الفترات احتياجًا لبعضنا البعض، وليس أمامنا من طرق لتجاوز هذه الأزمة سوى بهذه القيم الإنسانية النبيلة، وأن نعمل معًا من أجل ترسيخ مبادئ الأخوة والمساوة والاتضاع، فالله الذي يشرق شمسه على الجميع –الأشرار منهم والصالحين- خلقنا جميعًا، وكل فرد منا له قيمة، فحتى شعور رؤوسنا محصاة عنده. نهايةً، أود أن أشكر الله لأجل عام مضى، ربما كان من أصعب سنوات حياتنا، أقدم للجميع رسالة السلام والمسرة في العام الجديد، متمنيًا لمصرنا الحبية الرخاء، مصليًّا لشعبنا أن نعيش جميعًا في محبة وئام ورخاء.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;