طريق الكباش ورسالة للسلام العالمي من مصر منذ 3300 عام

أود أن أتقدم إليكم بالتهنئة بشدة على افتتاح طريق الكباش الذي يربط بين معبدي الكرنك والأقصر، والذي تم ترميمه مؤخرًا، وأغتنم هذه الفرصة لأشارككم سحرًا آخر من سحر العاصمة المصرية القديمة. يُذهل معبد الكرنك بالأقصر الزوار بحجمه الاستثنائي وقيمته التاريخية. وأنا واحد من هؤلاء المعجبين بهذا التراث العالمي. لكن بالنسبة لي كدبلوماسي قادم من اليابان، وهي دولة تتطلع إلى السلام الدولي، كان الأمر الأكثر إثارة للدهشة، هو العثور على جدرانه التي تحتوي على نقوش أقدم معاهدة سلام في العالم، وهي معاهدة قادش. النسخة الحيثية من هذه المعاهدة معروفة بشكل أفضل لبعض الناس. وهي نسخة طبق الأصل من اللوح الطيني ذي الكتابة المسمارية والموجودة في المقر الدائم للأمم المتحدة بنيويورك. من المؤسف أن هذا العدد الهائل من زائري الأقصر لا يلاحظون هذه النسخة الهيروغليفية الرائعة، حيث أنهم أكثر اهتمامًا بمعركة قادش. لذا قررت أن أتعمق في هذا الأمر بمساعدة العديد من الأصدقاء المصريين. خاضت قوتان كبرتان في الشرق الأوسط، وهما المملكة المصرية الحديثة بقيادة رمسيس الثاني والإمبراطورية الحيثية بقيادة الملك مواتللي الثاني، معركة شرسة في قادش على نهر العاصي بالقرب من حمص اليوم، على بعد بضعة كيلومترات فقط من الحدود السورية –اللبنانية. ويقال أن هذا قد حدث حوالي عام 1274 قبل الميلاد، على الرغم من استمرار الجدل حول التاريخ المحدد. يختص عدد من الجدران الحجرية في أبيدوس والكرنك والأقصر وأبو سمبل بوصف النسخة المصرية من المعركة والانتصار البطولي لرمسيس الثاني. بعد حوالي 16 عامًا من المعركة، تم إبرام معاهدة سلام رسمية بين رمسيس الثاني و خاتوشيلي الثالث، الملك الحيثيين الجديد، وذلك على خلفية الضغط المتزايد من الآشوريين وسباق الخلافة بين الحيثين. نُقشت النسخة الهيروغليفية من هذه المعاهدة على جدران معبد الرامسيوم ومعبد الكرنك. تُعد الروايات التفصيلية للمعركة شيقة وذات قيمة بالنسبة للتاريخ العسكري. إلا أن الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لنا في عالم اليوم هو أنه تم الاتفاق على أقدم معاهدة سلام وأصبحت معروفة وواضحة للجميع. يمكن تلخيص جوهر الالتزامات المتبادلة بينهم على النحو التالي: 1- يعم سلام وأخوة دائمين بين مصر والحيثين. 2- لا ينتهك أيٍ من الطرفين أرض الآخر. 3- في حال تعرض أيٍ من الطرفين للهجوم من طرف ثالث أو قوى داخلية، يقوم الطرف الآخر بإرسال قوة لدعمه. 4- يقوم كل جانب بإعادة المنشقين والمعارضين إلى الجانب الآخر. يمكننا هنا أن نجد اثنين من السمات، وهما معاهدة سلام لإنهاء الحرب، ومعاهدة تحالف للالتزام المتبادل بعدم الاعتداء والمساعدة. ومن المثير للدهشة أن نجد في مثل هذا العهد القديم نوعًا أوليًا من الآلية القانونية الحالية للسلم والأمن. عندما زرت معبد الكرنك، وجدت نص المعاهدة على الحائط الممتد ناحية الجنوب من قاعة الأعمدة الكبرى، حيث وجدت أنه بعد أن تم عمل مناظر للاستسلام تحتوي على نقوش ونصوص تتحدث عن المعارك ضد الأعداء. لكن ولسوء الحظ، استخدم السكان الذين عاشوا هنا فيما بعد تلك الجدران لشحذ سكاكينهم، مما أدى إلى تآكل بعض النقوش، إلا أن الأجزاء الرئيسية من النص ما زالت يمكن قراءتها. اكتشفت أن قراءة جميع هذه النصوص، أمر يفوق قدرتي، لكنني أردت التحقق من الجزء الأساسي من هذه المعاهدة، وهو التعهد بالسلام بين الإمبراطوريتين. كان النص الذي أبحث عنه منقوش على ارتفاع يزيد عن 3 أمتار، ولم أتمكن من رؤيته. لذا طلبت المساعدة من الدكتور مصطفى وزيري، أمين عام المجلس الأعلى للآثار. حيث سمح لي باستخدام السقالة أمام الحائط حتى أتمكن من رؤية النصوص والتقاط الصور. كانت هناك بعض الأجزاء غير المقروءة، لكنني كنت في الحماس لتحديد النص الذي يقول: "أرض كيميت (مصر) وأرض خيتا (أرض الحيثين) (ستكون في) سلام وأخوة أبديين ولن يحدث العداء بينهما أبدًا، وإلى الأبد ." (ملحوظة1) استغرقت وقتًا في كتابة وفهم السطرين ذاتا الصلة بالتعهد بالسلام الأبدي كلمة تلو الأخرى. ويجب هنا أن أشكر علماء الآثار المتميزين مِمَن ساعدوني في ذلك، مثل الدكتور زاهي حواس والدكتور طارق توفيق والدكتورة علا العجيزي، حيث أجابوا بكرم وسخاء على أسئلتي الغريبة. في النهاية، أصبحت كتابتي للنصوص بخط اليد تذكارًا جميلًا من مصر. يُقال إن الهيروغليفية لغة غريبة للغاية، حيث أنها تستخدم كل من الإيديوجرام (الرسم الفكري أو الرمز) و الفونُ‍جرام (الرسم الصوتي الدال على صوت) (ملحوظة 2)، إلا أنها تتشابه مع اللغة اليابانية كثيرًا. فنحن نستخدم الكانجي (إيديوجرام)، وأيضًا الكانا التي تُمثل (الفونُ‍جرام). مما جعلني أشعر بأن الهيروغليفية مألوفة بالنسبة لي. هناك بالفعل العديد من الدراسات التي أجراها المتخصصون حول المعاهدة، لكنني وجدت طريقة لتحقيق السلام الأبدي مثيرة للاهتمام بشكلٍ خاص. حيث تَشكلت من خلال ثلاث خطوات. لقد تم التعهد في البداية من قبل الزعيمان رمسيس الثاني وخاتوشيلي الثالث بالسلام والأخوة الأبديين، ثم تم التعهد بذلك من قبل أبنائهما أو شعبهما، وأخيرًا تم التعهد بذلك من قبل البلدين أو الدولتين، وهما مصر وبلاد الحيثين. كانت العلاقات الدولية في ذلك العهد تعتمد على العلاقات الشخصية بين أصحاب السيادة وتتغير هذه العلاقات بتغير هؤلاء الملوك. إلا أن معاهدة قادش حولت التعهد الشخصي بين القادة إلى اتفاق ملزم بين الدول. نجد هنا المبدأ الأساسي للقانون الدولي في يومنا هذا وهو: يجب احترام الاتفاقيات بين الدول حتى لو تغيرت القادة أو الحكومات. ولكن بالطبع، ليس هذا هو الحال دائمًا في السياسة على أرض الواقع. كانت هناك أيضًا نتائج مثيرة للاهتمام في اللغة. يستخدم النص اسم صاحب الحق في العرش وهو رمسيس الثاني (ملحوظة 3). وعادةً ما يتبع ذلك الاسم لقب "سيد مصر العليا والسفلى (ملحوظة 4)" وذلك للتأكيد على سلطة توحيد الأقاليم. إلا أن اللقب في هذا النص هو "الحاكم الأعظم لمصر (ملحوظة 5)"، ربما لأنه كان من الأهمية بمكان أن يُمثل الفرعون البلاد بأكملها. ويتم هنا التعبير عن "الحاكم" برمز السلطة الإلهية، وهو صولجان "الحكا"، أو عصا الراعي للفرعون. إلا أن نظيره وهو ملك الحيثيين يتم تصويره على أنه شخص واقف. ويُمثل في الغالب على إنه "رجلاً عظيمًا". هناك عدم تناسق مشابه عند سرد السلام بين الأطفال. ففي الكتابة الهيروغليفية، يتم التعبير عن الأطفال من خلال الجمع بين الحروف لإعطاء الصوت والرمز يسمى "المخصِصِ" للدلالة على المعنى. بالنسبة للمصريين، فإن المخصِصِ هو رمز لطفل، ولكن بالنسبة للحيثيين، فهو رمز لعصفور، ويعني الصغير أو الضعيف. ضربًا من الازدراء البسيط. هناك بعض الأمثلة على تقنيات الترجمة في اللغات الأيدوجرامية. حيث من الممكن تمجيد الذات والتقليل من شأن الآخرين، دون حدوث تغيير في المعنى بالضرورة. فقد كانت هناك أفعال مماثلة في آسيا القديمة، باستخدام الأحرف الصينية، على سبيل المثال، عند تسمية "البربر". من خلال دراستي لسطرين فقط على جدار معبد الكرنك، تعلمت الكثير من الأشياء. إلا أن أهم درس تعلمته هو أن معركة قادش لم تكن فقط مجرد صفحة مجيدة في التاريخ المصري، بل إن معاهدة السلام الخاصة بها كانت أيضًا بمثابة علامة فارقة في تاريخ العالم ومازالت تبعث إلينا برسائل السلام الدولي من مصر قبل 3300 عام.



الاكثر مشاهده

رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

بدعوة من دولة رئيس الوزراء الباكستاني.. العيسى خطيباً للعيد بجامع الملك فيصل فى إسلام آباد

علماء العالم الإسلامي يُرشحون مركز الحماية الفكرية لإعداد موسوعة عن "المؤتلف الفكري الإسلامي"

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

;