أحزننى كثيراً نبأ وفاة محمد على، لست من عشّاق الملاكمة، ولم أحظَ قط بلقائه شخصياً، لكننى ألحظ جيداً العظمة والطيبة لدى الأشخاص، كان محمد على مناضلاً طوال حياته، فقد نشأ فى الجنوب الأمريكى حيث السائد هو التفرقة العنصرية، وكان ضحية الفقر والتعصّب العرقى فى حقبةٍ كان يُكتَب فيها على أبواب الحمامات "للبيض فقط".
نفّس عن غضبه وإحباطاته فى حلبة الملاكمة، فظفر بالانضمام إلى الفريق الأوليمبى الأمريكى ونال ميدالية ذهبية قبل أن يبلغ القمم فى مسيرته المهنية ويسحر العالم ويخطف الألباب بثقته الشديدة بنفسه، وكلامه الشاعرى ورقصه، وقال ذات مرة: "الحلبة ستبقى دائمًا قدرى، حتى أشيخ ويغطى الشيب رأسى، لأننى أعرف كيف أسدّد لكمة وأرقص على وترى"، لقد أُنعِم عليه بموهبة رفع المعنويات ورسم الضحكة على وجوهنا.
كان محمد على بطلاً بكل المقاييس، كان يتباهى بأنه الأعظم – وكان فعلاً كذلك، كان خصمًا عنيدًا فى حلبة الملاكمة، لكنه كان من دعاة اللاعنف خارجها، أفاد من شهرته لرفع لواء حركة الحقوق المدنية التى كان أحد رموزها، وقف فى وجه الحكومة رافضًا القتال فى فيتنام ومعرِّضًا نفسه للسجن، وانتهاء مسيرته فى حلبة الملاكمة، قال: "لن أقاتل الفيتكونغ"، كانت مبادئه تأتى أولاً مهما بلغ حجم التضحيات التى يضطر إلى القيام بها من أجل الحفاظ عليها.
لم يعتنق الإسلام وحسب، بل عاش حياته أيضًا بحسب أركانه وتعاليمه، بعد قيامه بالحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة عام 1972، تعهّد بتكريس حياته استعدادًا "للقاء الله تعالى" عبر العطاء للفقراء، وتعزيز الوحدة، والعمل من أجل السلام، وعام 1998، عيّنته الأمم المتحدة مبعوثًا للسلام، وقد وفى بهذه الوعود حتى خلال إصابته بداء الباركنسون (الشلل الرعاشى) الذى يعطّل حركة الإنسان.
لقد خسرت أمريكا ابنًا، وكانت لفقدان هذه الشخصية الملهمة ترددات فى مختلف أنحاء العالم، سررت كثيراً عندما رأيت حجم التقدير الذى يحظى به ليس فقط من الأشخاص العاديين أو من زملائه الرياضيين أو المشاهير، إنما أيضاً من العديد من زعماء العالم.
قال الرئيس الأميركى السابق بيل كلينتون الذى حضر مراسم التشييع: "رأيناه يتطوّر وينتقل من الثقة الزائدة بالنفس التى يستمدّها من النجاح وعمر الشباب إلى مرحلة الرجولة الحافلة بالاقتناعات الدينية والسياسية التى قادته إلى اتخاذ خيارات صعبة وتحمُّل العواقب".
وقال العاهل الأردني، الملك عبدالله الثانى، وهو الزعيم العربى الوحيد الذى توجّه إلى مسقط رأس محمد على لتقديم واجب العزاء إلى أسرته، وإلقاء نظرة الوداع عليه: "لقد ناضل بقوة، ليس فى الحلبة وحسب، إنما أيضاً فى الحياة من أجل أبناء وطنه والحقوق المدنية... لقد خسر العالم اليوم بطلاً عظيمًا جمع الكل حوله، ويتخطّى تأثيره الحدود والدول".
فى حين أبدى امتنانى للعاهل الأردنى على تعاطفه الرائع، أشعر بخيبة أمل لأنه لم تصدر أى بادرة فى هذا الإطار عن كل رؤساء الدول العرب الآخرين، وبحسب معلوماتى، لم يرسل أحد غير العاهل الأردنى تعازيه إلى أسرة الراحل.
وما يزعجنى أكثر أنه فى حين خصّصت القنوات التلفزيونية الأمريكية والأوروبية أيامًا عدّة من البث الذى يكلّف ملايين الدولارات للحديث عن هذا الإنسان الفريد من نوعه، رجل الإحسان وحامل لواء الإسلام وداعِم النضال الفلسطينى الذى توجّه إلى إسرائيل من أجل الحصول على الإفراج عن أسرى فلسطينيين ولبنانيين فى الجنوب اللبنانى المحتل، اقتصرت التغطية فى معظم القنوات العربية على الحد الأدنى.
أمضيت ساعات فى التنقّل بين قنوات "فوكس نيوز" و"سى إن إن" و"إم إس إن بى سى" وسواها لمعرفة المزيد عن حياته، لكننى لم أقع على أى معلومات تُذكَر عنه على أى من الشبكات الناطقة باللغة العربية، عارٌ علينا! عارٌ علينا أننا لم نمنح محمد على، وقد أصبح فى أحضان خالقه، التقدير الذى يستحق، صحيح أنه لم يكن عربيًا، لكنه تخطّى الجنسية والعرق عبر نشره لمبادئه، ومواقفه المشرّفة، فى نظر المسئولين عن المحطات التلفزيونية العربية، يستحق بعض الفنانين الذين أتحفّظ عن ذكر أسمائهم لأننى لا أرغب فى الإساءة إلى ذكراهم، وقتًا أطول بكثير على الهواء.
أعتقد أنه لو ظلّ بصحة جيدة وقادراً على التواصل بسهولة، لأدّى دورًا أساسيًا فى لمّ شمل الأشخاص من مختلف الأديان، لقد دُهِشت بالتأبين القوى الذى خصّه به أحد أصدقائه المقرّبين، الحاخام مايكل لرنر، الذى استحق التصفيق له وقوفاً خلال مراسم التأبين فى لويزفيل فى كنتاكى.
قال الحاخام الذى تحدّث بصفته ممثل الجالية اليهودية الأمريكية الليبرالية التقدّمية: "لن نسمح بأن يسىء السياسيون أو سواهم إلى المسلمين أو يلقوا بالملامة عليهم بسبب حفنة من الأشخاص".
وقد وجّه انتقادات لاذعة إلى الحكومة الإسرائيلية بسبب قمعها للفلسطينيين قائلاً: "الجميع سواسية فى القيمة، وهذا يشمل الشعب الفلسطينى وجميع الشعوب الأخرى على وجه الكرة الأرضية"، على غرار محمد على، أدين الحاخام لرنر من قِبَل الحكومة الفيدرالية بسبب مبادئه، وقد أثنى على صديقه الراحل محمد على لأنه وقف فى وجه حرب غير أخلاقية معلنًا رفضه المشاركة فيها.
فى عالمنا الذى يزداد انقسامًا، وحيث هناك ميل متزايد إلى التشكيك فى الآخر، فى هذا العالم حيث يتفشّى إرهاب الآخر والتعصب والعنصرية، ليته كان هناك مزيد من الأشخاص الذين يفكّرون مثل محمد على والحاخام لرنر؛ أشخاص يلتزمون بمعتقداتهم الدينية لكنهم يبدون استعدادًا للتفاعل مع أتباع الأديان الأخرى، لو سار الجميع على خطاهم عبر التحلى بالتسامح والسعى من أجل إحلال السلام، لما اندلعت نزاعات مذهبية ولما تمكّن أى مرشح للرئاسة الأمريكية من حشد الأصوات بالاستناد إلى سياسة الكراهية والحقد.
أختم بكلام قاله محمد على نفسه: "أعرف إلى أين أنا ذاهب وأعرف الحقيقة، ولست مضطرًا إلى أن أكون كما تريدوننى أنتم أن أكون، أنا حرّ بأن أكون كما أشاء"، إنه الآن أكثر حرية من أى وقت مضى، فليرقد بسلام!