كمالا وسوزانا.. رمزية السودان وحيويته

كعادته الأثيرة أمدني الناقد السوداني المثابر خالد علي، بفيلم وثائقي سوداني قصير لافت في بهائه لعدة أسباب، فالفيلم وعنوانه "كمالا إبراهيم إسحاق: حالات الوحدانية" / kamala ibrahim ishag: states of oneness""، والذي عُرض الشهر الماضي في لندن بمعرض (Serpentine Gallery in Hyde Park London)، يفيض بحيوية مخرجته سوزانا ميرغني وبطلته كمالا إسحاق التي يتمحور حولها الموضوع والحكاية.. امرأتان من السودان لديهما من الصلابة والحيوية ما يوازي رهافتهما وليونتهما الإنسانية في التعامل مع الفن والحياة، لعل خبرتهما الحياتية أثرت في تكوينهما ولكن في تصوري أن الأصل والإرث الجيني الممتد إلى جذور الوطن "السودان"، أسهم بشكل كبير في المعافرة والإصرار لإثبات الحضور، والإدراك في ذات الوقت أن الحياة متسعة للجميع. أحاول بقدر كبير ألا أبالغ في تقديري هذا، أو الوقوع في فخ الاحتفاء والحديث المسرف عن السينما السودانية مؤخرُا، لأني أنتبه إلى أن الغلو والشطط يضر أكثر ما ينفع، كما أفهم أن أي نجاح قد حققته الأفلام السودانية الجديدة في المحافل الدولية، هو بالفعل نتيجة لجهد ودأب صانعيها الذين يرسخون لقواعد جديدة في الصناعة، قواعد تحتكم لموضوعات إنسانية حقيقية وجماليات وفية في الصورة والتشكيل، كما أن اثنتان مثل كمالا وسوزانا اللتان أتحدث عنهما هنا بمناسبة فيلمها القصير، تمتلك كل واحدة فيهما تجربة كافية للتعبير عنهما دون تدخل مني أو من غيري، إضافة إلى أن الفيلم الذي أسوقه إليكم ليس عملًا معقدًا يحتاج الكثير من التنظير والتأويل، بل ينتمي إلى هذا النوع من السينما الذي يبدو عميقًا بقدر بساطته. لا يقدم الفيلم الصراع بين الهوية والثقافة والحداثة والتقليد، إنما التقطت سوزانا ميرغني الكاتبة والباحثة ومخرجة الأفلام المستقلة ومنها فيلم "الست" الحائز على العديد من الجوائز الدولية، التقطت الحالة المميزة لمواطنتها كمالا إسحاق، ليس كواحدة من أبرز رواد الفن التشكيلي في السودان والفن البصري الإفريقي إجمالًا، لكنها اعتنت بها كواحدة من الحكايات التي خرجت من السودان إلى فضاء الإنسانية الأوسع.. صحيح أن سوزانا لديها هذا الميل في التوغل داخل المساحة التي تتداخل فيها تعقيدات الهوية، ربما يعود ذلك إلى أصولها الموزعة بين السودانية والأوروبية، وأن كمالا المولودة بمدينة أم درمان في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي وتنتمي إلى جيل أسبق، جمعت بين الإرث السوداني بحكم الأصل والتشكل المتأثر بالجذور وبين التأثر الأوروبي بحكم الدراسة والتوسع، لكن بصمة الفيلم أوضح من أية تعقيدات في هذه المسألة. منذ البداية تتحكم سوزانا بسلاسة بصرية في سرد التفاصيل، من الشجر واللوحات إلى وجه كمالا بصحبة كاميرا خالد عوض وموسيقى سلاف إلياس، ثم تحكي كمالا يُزيل لإتمام المشهد والمسار، تفسر العلاقة الوطيدة بين النبات والإنسان، تقول: "نأكل النباتات، ولما بنموت ندفن وبنبقى سماد للنباتات"، هذا العلاقة يرصدها الفيلم من خلال اهتمامها بالنباتات في حياتها اليومية ومن خلال لوحاتها التي تطالعنا بوجوه بشرية وخصوصًا نسائية على أشجار، إن الشجرة امرأة عالية وصلبة. لا شك أن هذه الروح استلهمتها من بيئتها الأصلية في السودان، دون النزوع إلى نزعة نسوية مغالية، وهي ما عبرت عنه ببساطة شارحة كيف أن مخزونها الاستراتيجي جمعته من مجتمعها الأول في السودان، ومن خلال ما رأته في طفولتها، بما كان مصدرًا رئيسيًا لفنها: تفاصيل الطبيعة، زخارف وأشكال على جدران البيوت، جلسات النساء وممارساتهن العادات والتقاليد، مشيرة إلى أن الفن ليس مجرد الرسم على الورق أو الرسم على القماش، معتبرة أن أي إنتاج إبداعي هو فن، وأن كل شخص لديه القدرة على خلق الفن، وفي رأيي أن هذا التوجه المستنير منها هو ما أسهم في استمراريتها واتقاد مسيرتها الإبداعية الغنية بالإنجازات الفنية، ما جعلها أيقونة ملهمة لأجيال كثيرة لاحقة، وحصولها على جوائز عدة منها جائزة الأمير كلاوس في العام 2019 بهولندا. الجوائز ضرورية للفنان، لكن الفيلم وكذلك كمالا لا يعنيان بالجوائز بقدر تُذكِّر الامتلاء بالجانب الفني خصوصًا والحياتي عمومًا المنبثق من زاوية الموهبة والثقافة في مواجهة تحديات اجتماعية كثيرة، زاوية نابضة بحيوية وحماسة لإنتاج الأجمل والأفضل، انطلق منها الفيلم بإيقاع مضبوط يصنع نوعًا من الاغتسال الروحي، يلائم حالة فنانتين من السودان، واحدة جعلت من الرسم والفن التشكيلي أسلوبًا لحياة حرة، والثانية جعلت السينما حيزًا لتفكيك الذات والروح.



الاكثر مشاهده

بدعوة من دولة رئيس الوزراء الباكستاني.. العيسى خطيباً للعيد بجامع الملك فيصل فى إسلام آباد

علماء العالم الإسلامي يُرشحون مركز الحماية الفكرية لإعداد موسوعة عن "المؤتلف الفكري الإسلامي"

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

10 أسئلة وإجابات حول تعديلات قانون تملك الأجانب للأراضى الصحراوية.. برلماني

الشيخ العيسى: يمكن للقيادات الدينية أن تكون مؤثرة وفاعلة فى قضيةٍ ذات جذورٍ دينية

;