ناصر أبوطاحون يكتب : رحلتى مع الجيش

الشمس غابت وحل الظلام بينما الأوتوبيس يقطع بنا الكيلومترات الأخيرة قبل أن نصل إلى كلية الضباط الاحتياط
كانت رأسى تمتلىء بالأفكار عن الموقف الذى نقترب من خوض غماره و كيفية التعامل معه ،فمن المؤكد أن للعسكرية مهابة فى نفوسنا كشباب صغير مهما كانت استعدادتنا لها
كنا قد وقع الاختيار علينا لنكون ضمن الدفعة 80 ضباط احتياط التى تم تجنيدها فى شهر اكتوبر 1978
لكزنى زميلى الذى كان يجلس إلى جوارى فأفقت على الجميع وقد وقفوا يلملمون اشياءهم استعداداً للنزول فى قلب الكلية
نزلنا وبدأنا فى التجمع فى صفوف ومجموعات، وبينما نحن كذلك فوجئت بكتلة بشرية تجرى بالقرب مننا فى الظلام و هى تصدر اصواتاً فطمأنت نفسى أن هؤلاء ليسوا من طلبة الكلية ، قد يكونوا جنوداً او ضباطاً يجرون تدريباتهم، وخلال دقائق معدودة كنا قد تسلمنا مهماتنا وأسلمنا رؤوسنا للحلاق لنخرج من تحت يديه متشابهين تماماً ،فلا تستطيع أم ان تميز ابنها من بين بقية الابناء، وما أن فرغنا من الحلاقة حتى كنا قد تخلصنا من ملابسنا المدنية ولبسنا الأفرول والبيادة، و بدأنا الركض ونحن نصدر نفس الأصوات التى كانت تصدر عن الكتلة البشرية التى كانت تجرى إلى جوارنا قبل قليل!!
تم توزيعنا على السرايا ليتلقفنا الرقيب أول السعيد عبد الفتاح بإعتباره مسئولاً عن سريتنا ، ووقفنا أمام الباتشاويش ليلقننا تعليمات الانضباط والأوامر التى التى سنسير خلال فترة وجودنا بالكلية ، ولم ينسى التأكيد على أن من التزم بالتعليمات نجا و أكمل وصار ضابطاً محترماً ، ومن خالف التعليمات فمصيره إلى السجن.

ولم ينسى الباشاويش سعيد أن يتحفنا بلمحات عن تاريخه فى الانضباط العسكرى و أن على الجميع أن ينضبط معه فى المنظومة العسكرية

كان برنامجنا اليومى يبدأ من الخامسة فجراً حيث تتواجد المياه لمدة ساعتين فقط ، وعلينا ان نستحم ونحلق، ونملأ جراكن المياه الخاصة بكل عنبر لنستخدمها فى الشرب بقية اليوم

عند السادسة كان البروجى يضرب لنتجمع فى طابور صباحى قبل الافطار الذى كان موعده فى السابعة صباحاً
وعند الثامنة كان الطابور الرئيسى ينعقد فى ارض الطابور ثم تبدأ بعده مباشرة التدريبات التى تسمى بالطابور
وكانت الطوابير مقسمة بين تعليم اولى لتعليم الانضباط والسير بالخطوة المعتادة وغيره من الامور المتعارف عليها فى كل جيوش العالم، كما يتم تخصيص طوابير اخرى للسلاح و كيفية فكه وتركيبه وتنظيفه، ناهيك عن طوابير اللياقة البدنية
المهم كان الطلبة يظلون فى طوابير مستمرة منذ ان يستيقظوا عند الخامسة وحتى تناول العشاء فى الثامنة ثم يتلوها محاضرات فى الأمور العسكرية و قبيل العاشرة يطلقون سراحنا منبهين علينا بضرورة النوم مبكراً، مع تهديد بان القيادات ستمر على العنابر ومن تجده مستيقظاً سيتم محاسبته ووضعه فى السجن

كنت اضحك بينى وبين نفسى وانا اسمع هذا التهديد، فنحن فى حالة من التعب والإرهاق لا تتيح لنا ان نسهر دقيقة واحدة ، حيث اننى كنت احلم وانا واقف لتلقى هذه التعليمات بالوصول الى السرير فى العنبر الذى كان يبعد عن ارض الطابور بما قيمته كيلو متر واحد تقريبا

استمرت ايامنا على هذه الوتيرة والأرهاق يستبد بنا و ربما كان الأكل من حيث كميته ولا جودته مرضياً لنا ونحن قادمون من بيوتنا والأكل بها مختلف كماً ونوعاً.

كان بعضنا يسخر مما نتلقاه من تدريبات خاصة فى التعليم الأولى ، غير مُدرك أن التعليم الأولى اساسى فى كل الكليات العسكرية فى العالم.
وكنا كلما جأرنا بالشكوى للقيادات الذين يحاضرون لنا ، كانوا يطمئنونا ان التدريب القوى يؤدى الى الارهاق والارهاق على الارهاق يؤدى الى الراحة

وبالفعل تأقلمنا على الأوضاع الجديدة وخلال شهر كنا فى حالة من الانضباط و نؤدى الحركات المطلوبة ونسير بالخطوات المعتادة بشكل ادهشنا جميعاً، خاصة ان البدايات قد شهدت عكاً كبيرا ، ناهيك عن اصابات كثيرة لبعض زملاءنا من غير المعتادين على بذل المجهودات العضلية ، فكانوا يصابون بتمزقات عضلية كالتى يصاب بها الرياضيون

وكنا كلما شكونا من رداءة الأكل وقلته كنا نتلقى رداً واحداً من جميع الظباط : "انتم فى فندق القوت المسلحة" بمعنى اننا فى حالة من الرفاهية وكأننا نزلاء فى فندق !

أنهينا التدريب ثم انتقلنا لنيل فرقة التخصص فى السلاح قبل ان نعود للكلية من جديد لحفلة التخرج
تم توزيعنا على الوحدات العسكرية التى أتممنا فيها خدمتنا العسكرية، شهدنا خلالها اياماً شديدة الصعوبة والوعورة حفرت فى نفوسنا علامات الرجولة و قوة التحمل ، كما شهدنا ايضاً اياما جميلة ، وتحولت لحظات الصعوبة والأيام المريرة إلى ذكريات نضحك عليها ونستعيدها لنستفيد بدروسها
هذه بإختصار رحلتى مع الجيش
أيام خشنة، قابلت فيها الجيد والردىء من البشر، و استفدت منهم جميعاً ، تعلمت من الشخص الجيد ان اصعد اليه واقلده، ومن الشخص الردىء أن أتجنب ما يقترفه من أشياء وما يقدم عليه من تصرفات
تعرضنا لمواقف صهرتنا و اصطدمنا بمشكلات تغلبنا عليها وانتهت خدمتنا لنحصل على شرف العسكرية المصرية شهادة تأدية الخدمة العسكرية بتقدير قدوة حسنة وصورة بالزى العسكرى تزين إحدى حوائط المنزل نتباهى ونفتخر بها كلما نظرنا اليها.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;