قاضى محاكمة صدام حسين يفتح خزائن أسراره لـ"انفراد": محاكمة الرئيس العراقى الأسبق شابها تدخلات خارجية فقررت الانسحاب.. وزير العدل العراقى الأسبق حاول التأثير فى القضية.. ولم أكن أستطيع الاستمرار

على ارتفاع أكثر من ألفى متر، فوق جبل كويزة بمدينة السليمانية، العاصمة الثقافية لإقليم كردستان العراق، وبالتزامن مع زخم إجراء الاستفتاء على الانفصال عن بغداد، التقينا بقاضى قضاة إقليم كردستان العراق، رزكار محمد أمين، رجل العدالة والقانون الذى قال للظلم: لا؛ إذ تنحى عن محاكمة الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين فى العام 2005م، حين رأى أن العدالة لن تأخذ مجراها وأن الرئيس المكبل بالقيود، والقابع بين جدران الحديد وخلف قضبان الفولاذ، لا تتوفر له فرص محاكمة عادلة تمكنه من الدفاع عن نفسه، وتحرير قضيته من أسرها، وطرحها أمام العالم على مرأى ومسمع من الكاميرات. كان رزكار محمد أمين، يحاكم صدام حسين، وهو كردى، ليس عربيا؛ غير أنه أبى أن يحكم بالظلم أو أن تملى عليه أمور لا يقبلها ضمير الإنسان بداخله، وكثيرا ما كان يتدبر قول الحق الموضوع فوق كرسيه: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) فقرر أن يطبق الأمر الإلهى على الرجل الذى فعل بالكرد الأفاعيل، والذى تنسب له جرائم تطهير عرقى بحقهم فى «حلبجة والأنفال ودُهوك» وغيرها. شاهد العالمُ القاضىَ العادلَ رزكار (تنطق بالكردية رزجار) من خلال المحاكمات العلنية التى جرت للرجل، الذى كان ذات يوم أحد أقوى حكام العالم، ورئيس أغنى دول الشرق الأوسط، والقائد الأعلى لأحد أقوى الجيوش فى النصف الشرقى من الكوكب. التقينا القاضى رزكار ونقبنا فى ذاكرته وخرجنا منها بدرر التاريخ الخاص به، كما كان بطله وفاعله، وكما صنعه ورواه، وسألناه عن موقفه من مسألة الاستفتاء الذى يجرى فى كردستان على قدم وساق، وتجولنا فى عقليته الاستراتيجية التى لا تبتغى لبنى وطنه سوى وجه الخير والباحثة دائما عن الكمال. - رزكار محمد أمين: لم تتوفر ظروف محاكمة عادلة للرئيس صدام والمتهمين وفقا للمعايير الدولية.. وتنفيذ قرار إعدامه يوم العيد مخالفة صريحة للقانون وقبل الذهاب إلى نص الحوار نسجل عدة ملاحظات استرشادية يمكن أن تقودنا إلى فهم حالة رجل عادل فى أمة متطلعة، وحالة أمة لها تاريخ وحضارة أنجبت قاضيا نحَّى مشاعره جانبا أمام كلمة الحق وأمام كلمة القانون، فعندما قابلنا القاضى رزكار محمد أمين، بدا لنا مرتديا رابطة عنقه الزرقاء المموهة بالبياض تلك التى كان يرتديها أو تشبهها إلى حد كبير بينما يجلس على منصة العدالة فى قضية القرن بالعراق.. كان هدفنا من الحوار ليس العودة إلى التاريخ؛ بل الذهاب إلى المستقبل، من خلال استقرائه عبر التفاصيل الماضية والأحداث الفائتة والحكايات المستقرة فى ضمائر أصحابها، خاصة أن مصدرنا كان ولا يزال فاعلا جوهريا فى السياسة العراقية المعاصرة. وفى محاولة منا للفهم، وليس محاولة منا للحكم، إذا ما كان ذلك الحكم على الرئيس الأسبق صدام حسين أو حكما على الحالة الكردية الراهنة.. كان لنا هذا الحوار: كنت قاضى محاكمة الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين.. لماذا تنحيت عن الحكم فى القضية؟ - بداية، من حق القاضى أن يتنحى عن نظر أية قضية أو يستقيل من منصبه متى شاء وفقا للقانون، ولكن لابد من أسباب تدفع القاضى إلى ذلك، فلا يخفى عليكم أن استقلال القاضى وحياده ونزاهته أهم ركائز أى محاكمة، جنبا إلى جنب مع مبدأ استقلال القضاء كمبدأ دستورى وطنى ودولى منصوص عليه فى المواثيق والعهود الدولية والإقليمية ومن بينها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان. وكان إيمانى راسخا بكلا المبدأين وهما استقلال وحياد القاضى واستقلال القضاء، وبضرورة حمايتهما من أى خرق أو تدخل، وهى من واجبات الحكومة والسلطات كافة والسلطة القضائية نفسها على وجه الخصوص، فعندما أرى أن استقلالية القضاء يشوبها الغبار، وأن حياد القاضى قد يهتز، فمن الطبيعى أن أرفض ذلك، ولم أكن أستطيع الاستمرار فى محكمة تحيطها مخاطر التدخلات بما يؤثر على إرادة القضاة، وعلى حياد القاضى فى نظر القضية، وسواء كان التدخل من خارج القضاء أو من القضاء نفسه. ما هى الجهات التى تدخلت وحاولت التأثير على قرارك فى تلك المحاكمة؟ - بعض الجهات الرسمية وثمة أحزاب وكتل وأشخاص بألقاب سياسية وبعض القنوات الإعلامية كانت تتدخل وتحاول التأثير علينا، والتدخلات الخارجية كانت نابعة من عدم فهم للقضاء ومهامه وحرمته، ومن منظورهم الخاطئ للعملية القضائية ونظرتهم إلى المحكمة وكأنها أداة قمع وانتقام أكثر من كونها وسيلة قانونية لتحقيق العدالة. وكنت أومن أن العدالة هى للجميع لا يستثنى منها أحد أيا كانت هويته وعنوانه أو منصبه فى الدولة، مستمرا بالخدمة أو معزولا عنها ومهما كان نوع الجرائم وخطورتها وبواعثها، فعندما تختار طريق المحاكمة يجب إجراؤها وفقا لمبادئ قضائية صحيحة وبمعايير دولية للمحاكمة العادلة وضرورة إدارة الحلبة بمهنية واحترام وأخلاق بما يليق باحترام وهيبة القضاء الراسخة تاريخيا لدى معظم شعوب العالم، وبلاد الرافدين لها شرف ميلاد أولى الشرائع المكتوبة قبل آلاف السنين فحقا علىّ احترامه. والقاضى بيده الميزان وهو خليفة الله فى الأرض، وعليه ألا يخشى فى الحق لومة لائم وهذه نظرتنا لأية محاكمة أيا كانت أشخاصها، فلا أبالى بالصخب السياسى أو الرأى العام عن النظر فى دعوى قضائية. من الشخصيات التى حاولت التدخل والتأثير فى قرار المحكمة؟ - لا أحبذ ذكر الأسماء الآن، ولكننى أتذكر من المصرحين بالتدخلات الناطق باسم الحكومة ووزير العدل العراقى فى نهاية عام 2005 علاوة على بعض المقالات وتصريحات من أناس لا يفقهون شيئا فى القضاء أو طبيعة عمل القاضى، وكان من بينهم من يفتقر حتى إلى أبسط قواعد الأخلاق أو آداب الكلام الموزون وبما ينم عن سلوك غير متزن وثقافة متخلفة للكاتب أو القائل أو ربما التدنى وسوء التربية، والغريب فى الأمر أن البعض من هؤلاء كانوا يوما ما أو ربما حتى سقوط الحكم العراقى فى عام 2003 فى خدمة ذلك النظام بطريقة ما، أو أصحاب مناصب وامتيازات مادية، فانقلبوا رأسا على عقب بتغير النظام كنهجهم الانتهازى فى الاستفادة من جميع الظروف والأنظمة بأساليبهم الماكرة وقابليتهم للتلون السريع بلون الحكم القادم والسلطة الجديدة، ومنهم شخصيات لعبت على أكثر من حبل سياسى للمال والمنصب، ومن بينهم قيادى فى حزب سياسى اعترف على رفاقه فى السجن متحولا من حزبه إلى حزب معادٍ له ولحزبه، وطبيعى أن لا خير فى هؤلاء، وهم لم ولن يخدموا العراق وشعبه، بل أخذوا يزرعون بذور النفاق والفتنة فيه خدمة لهم أو لسيدهم الأجنبى. من وجهة نظرك، هل كان صدام حسين يستحق قرار الإعدام؟ وهل كان الحكم عادلا فى ضوء تلك المعطيات؟ - أنا مع المدرسة التى لا تؤيد عقوبة الإعدام وكقاضٍ حتى فى إقليم كردستان لا أؤيد عقوبة الإعدام وفى فترة كنت عضوا بالبرلمان تقدمت بمشروع قانون لإيقاف العمل بالمواد والفقرات التى تنص على تلك العقوبة، أما موضوع الإجراءات والمحاكمات التى جرت فإن المحكمة هى المسؤولة عن إدارتها وعن تطبيق القانون فيها وعن تكييف القانون وموضوع الأدلة ووجود الأدلة من عدمه، وأنا لا أعلق على ما صدر من أحكام وقرارات لأن المحكمة الأخرى التى تولت العمل فيها هى المسؤولة عن مصداقية الحكم، ولكنى أستطيع أن أجزم أننى فى الفترة التى توليت العمل كرئيس للهيئة الأولى للجنايات حاولت أن أطبق القانون بحذافيره، بعيدا عن كل شوائب التدخلات وغير ذلك بما لا يؤثر على سير العدالة. هل ارتكب الرئيس الأسبق صدام حسين ارتكب جرائم ضد الإنسانية؟ - هذا الموضوع يتعلق بالملفات التى كانت منظورة وصدرت أحكام فى أكثر من ملف وبخصوص شخص صدام حسين أدينه فقط فى قضية واحدة، وهى قضية الدجيل، وأغلقت بحقه كل القضايا الأخرى بعد تطبيق عقوبة الإعدام، ومنها قضية الأنفال وحلبجة والأغوار وغيرها لأنه بموجب المادتين 300 و304 فى قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقى رقم 23 لسنة 1971م، تنقضى الدعوى الجزائية بوفاة المتهم وتوقف الإجراءات القانونية بحقه إذا توفى فى أثناء التحقيق أو المحاكمة وهذا ما حصل بإعدامه، لأن المتوفى لا يستطيع الدفاع عن نفسه. باعتباركم رجل قانون هل ترى أن توقيت إعدام صدام فى نهار عيد الأضحى، باعتباره ضحية يتم ذبحها، كان مناسبا على المستوى القانونى والإنسانى والدينى والسياسى؟ - أفرد قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقى بابا خاصا بتنفيذ عقوبة الإعدام المواد من (285 إلى 293)، وبموجب المادة 290 منه «لا يجوز تنفيذ عقوبة الإعدام فى أيام العطلات الرسمية والأعياد الخاصة بديانة المحكوم عليه، وبالتالى فإن تنفيذ حكم الإعدام بحقه فى يوم عيد وعطلة كان خاطئا وفيه خرق للقانون». ما هى النصيحة التى توجهها إلى حكومة إقليم كردستان العراق وأنت رجل قانون وفى الوقت نفسه تنتمى إلى الإقليم؟ - من المهم جدا للحكومة محاربة الفساد وحماية استقلال القضاء، فالمفترض على الحكومة أن تقوى وتدعم القضاء ليكون له الحكم الفصل والكلمة الأخيرة فى المنازعات، وموضوع الفساد يجب أن تبتعد عنه الحكومة والمؤسسات وتهتم بتقديم الخدمات للمواطنين وتعمير الشوارع ورصفها وفتح قنوات للمواصلات بالإقليم، فضلا عن الحاجة إلى مد سكك الحديد، هذه الشوارع الآن تؤدى إلى كثير من حوادث المرور التى تحدث بسبب سوء الشوارع، هذه من الأمور المهمة فضلا بالتأكيد عن حماية حقوق الإنسان وإدارة السجون والمعتقلين ومنع التعذيب فى أى مجال من مجالات التوقيف، وأن نقيم معاملة إنسانية داخل المحاكم لأى شخص أيا كان وضعه ومركزه الاجتماعى ونبنى دولة المواطنة ونجعل المواطن يشعر بكرامته وبحقوقه، وأن يكون أمام العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكل عادل ومنصف وحماية المال العام، هذه مسائل مهمة لإدارة رشيدة لتحقيق الحوكمة. بصراحة نسأل هذا السؤال لأننا نستشعر أنكم أكثر ميلا لإرجاء الاستفتاء على المستوى السياسى؟ - عندما يكون إرجاء الاستفتاء لمصلحة الشعب الكردى والعراقى فلا ضير فى الإرجاء ولا ضرر منه، خاصة إذا صارت هناك ضمانات جيدة، والقيادة الكردية طلبت ضمانات دولية، وإلى الآن الباب مفتوح، وهناك جهود واجتماعات فى هذا الموضوع، فإذا حصل بها مكاسب فى موضوع طرح الاستفتاء فموضوع الاستفتاء يمكن أن يؤجل لأنه شىء يمكن أن يعاد فى أى وقت، فموضوع الاستفتاء ليس لمرة واحدة وينتهى، وإذا كان موضوع التأجيل من مصلحة العراق والشعب العراقى إجماعا، وخاصة الشعب الكردى خصوصا فليؤجل وذلك خير.






الاكثر مشاهده

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

بدعوة من دولة رئيس الوزراء الباكستاني.. العيسى خطيباً للعيد بجامع الملك فيصل فى إسلام آباد

علماء العالم الإسلامي يُرشحون مركز الحماية الفكرية لإعداد موسوعة عن "المؤتلف الفكري الإسلامي"

;