صدر عن المركز الثقافى العربى رواية من تأليف المفكر والفيلسوف المغربى الدكتور سعيد بنسعيد العلوى، الرواية فيما أرى أنها سيرة مقنعة للحياة الفكرية للمؤلف، تعكس تصورات ذهنية وتساؤلات لديه حول واقعنا لحياتنا الفكرية محملة بنقد لاذع لها فى صورة رواية تحكى، وإن كان المؤلف بغلافه هذا يلوم علينا عدم إدراكنا لقيمة ما لدينا من تراث، خاصة رحلة ابن بطوطة التى جعلها المؤلف المحور الذى تدور حوله الرواية، فهى موضوع أطروحة الدكتوراه لبطل الرواية، وهو فى أحداثها يعود لبلده المغرب.
نراه يؤكد بعدنا عن إدراك قيمة التراث والقراءة، حين يذكر على لسان أحد أبطال الرواية الأبيات الشعرية:-
شافونى أكحل مغلف يحسبو ما فى ذخيرة
وأنا كالكتاب المؤلف فيه منافع كثيرة
استعان الراوى بتقنيات الحكى فى أدب الرحلات عند العرب، فهو يسرد أحداث رواياته عبر الأيام إلى أن يصل لليوم الثامن.
فى الحكى نرى مزج الراوى بين رحلة ابن بطوطة ورواية العلماء فى الغرب له، ورواية المؤلف لابن بطوطة كأحد الرواد فى دراسة طبيعة المجتمعات والكشف عنها متقدماً فى ذلك من الدراسات الغربية، التى ذكر الراوى وهو يقدم بحثاً فى مؤتمر بطنجة به علماء غربيين، أن عدداً منهم لا يزالون لا يعترفون بفضله، إلا أن الراوى ذهب إلى تقليد ابن بطوطة فى حكيه وكأنه تلبس شخصية فنراه يذكر:-
فى القرية العطرة خلق كثير، يموج بعضهم فى بعض، وجلبة الحال أشبه شىء بالأسواق الأسبوعية التى تنظم فى المداشر والقرى، غير أن الشأن لم يكن كذلك : ذلك أن حال الازدحام والجلبة هو كذلك منذ ثلاثة أيام، و"يوم السوق الأسبوع" كان قبل خمسة أيام.
تلك أيام موسم سيدى رضوان. وإذا سألت تبينت أن الأمر يتعلق فى الواقع بمولاى رضوان جد مولاى الزبير. هى احتفالات "الموسم" كما يقال فى بلادنا فى الغرب، أو هى أيام "المولد" كما يقول أهل مصر والشام.
قصدت أحد السرادقات قصد تناول طعام الإفطار وشرب كأس من الشاى المنعنع قبل أن أقصد ربع العارف بالله سيدى الزبير فأهنأ بالسلام عليه ويعاود نفسى ما افتقدته من الهدوء والصفاء. والنية عندى أن التمس منه الدعاء الصالح، كما أننى فى شوق كبير إلى حضور ليلة الذكر، ومشاهدة أهل الله الفقراء من أصحاب الطريقة البوشميسية يمضون الليل فى الفرح والذكر فى الليلة العظمى.
باسم الله تعالى أقصد ربع مولاى الزبير بن أحمد قدس الله سره لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلم المعاهد الشريفة كامن فى الحيازم. عسى الله أن يكون للنفس فى ذلك زوال الغم وصقل لما علق بها من الكدورات والأدران، فإن عند أهل الخرق ما ليس يكون عند أهل الورق.
عند عتبة الربع المبارك حيث وقفت بنا السيارة الرباعية الدفع التى أقلتنا رأيت عجباً. رأيت من الحراسة والتنظيم والحزم ما لست أعهده فى مثل هذه المنازل. رجال بلباس موحد، فوق صدر كل منهم شارة باسمه ومهنته محدداً – مع علامة واسم شركة تقوم بخدمات الحراسة والإطعام وكافة أوجه التنظيم. فهمت أن هذه الجهة من الربع مخصصة لكبار الضيوف من الأجناس والبلاد المختلفة. أما "عموم الفقراء والمحبين" الذين يقصدون الحضرة ويتشوفون إلى إحياء الليلة العظمى فهم ينفذون من جهة أخرى، جهة لصيقة بالمشهد الفخيم حيث ضريح العارف بالله سيدى رضوان.
علمت كذلك أن كبار الضيوف "بعد إثبات أسمائهم وصفاتهم فى سجل خاص – وبعد اطمئنان أهل الحراسة على مطابقة الدعوة لحاملها" يحضرون "الجمع العلمى" أولاً. ثم أنهم قبل التبرك بطعام الفقراء بعد صلاة العشاء مباشرةً، يتوجهون إلى "الخيمة الثانية" حيث يعقد قران مولاى شاكر "حفيد مولاى الزبير"، وبعد ساعتين أو نحو ذلك ينفذون إلى المشهد الفخيم وينعمون بالسلام على مولاى الزبير ومشافهته قبل أن يلتحقوا بحفل الحضرة ويكونون شهوداً على الليلة العظمى.
وجدت من نفسى اللوامة إنكاراً شديداً لكل ما رأيت وسمعت وراودتنى فكرة الانصراف والقناعة من الغنيمة بالإياب. فهل يكون من تبدل الأحوال وفساد أهل الزمان أن أهل الله، أرباب الفضل والولاية، ينغمسون فى أمور الدنيا ويزاحمون أرباب المال والسلطان فى بدعهم وإسرافهم؟ غير أنى تماسكت وقلت لنفسى مهدئاً لروعها : يا نفس لا تقلقى، ليس لنا أن نلقى بالاً إلى مظاهر لا تنال من الجوهر شيئاً. وإنما هى آداب وترتيبات يقتضيها الوقت، وتقضى بها سنة التبدل والتحول. إنما هى مكابدة أو مجاهدة يمتحن بها السالك المحب قبل الصعود إلى مراتب الارتفاع والسمو.
هل هذه الرواية الكاشفة تنبهنا لإعادة اكتشاف ابن بطوطة وقيمة رحلاته العلمية، أم أنها تدق جرس الخطر للأجيال الجديدة عبر الرواية الى اعادة قراءة تراثها وقيمته، ام انها جرس انذار لنا لإهمالنا قراءة تراثنا برؤية معاصرة؟