لام الجحود.. "حرف" يلخص استثنائية وعبقرية لغة

بالتأكيد استمعت ـ فى يوم ما ـ عزيزى القارئ ـ لهذه الآية {وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله} (الأعراف: 43). وتعلم أن معناها هو إسناد نعمة الهداية للخالق جل شأنه ونفيها عمن سواه، وهذا صحيح، لكنه ليس المعنى الكامل أو الغائر، فالتركيب ـ بهذا الشكل ـ يخفى خلف قشرة المعنى البسيط المباشرة ما هو أعمق، والسر يكمن فى كلمة "لنهتدى" وبالتحديد فى اللامٌ الأولى منها. تقول لى: وضح أكثر حسنا.. إن هذه اللام تسمى لام الجحود، وهى لا تشارك ـ فقط ـ فى نفى حدوث الفعل (دلاليا) و"نصبه" (نحويا) بل تفعل ما هو أكثر.. خذ عندك مثلا هاذين التركيبين وقارن بينهما: "ما كان سعيد ليتصدق"، "ما تصدق سعيد"، برأيك ما الفارق بين الجملتين؟ أسمعك تقول: التعبير الأول أقوى بالفعل.. حسك اللغوى حى.. التعبير الأول ليس فقط أقوى فى دلالة نفى الفعل عن سعيد، بل إنه يتجاوز هذا النفى لبناء شخصية سعيد ذاته، فاللام تنفى مع الفعل إرادة القيام به، ومن ثم تبنى شخصية الفاعل، فسعيد بخيل، "لن" يتصدق لأنه لم يعهد عليه قبلا التصدق. أسمعك تقول: بدأت أفهم.. لكن احتاج إلى المزيد من الإيضاح وأجيبك بأن التركيب الثانى "ما تصدق سعيد" ينفى الفعل فقط، ولا يعنى بالضرورة نفى إرادة القيام به.. ومن ثمّ تبقى شخصية الفاعل مجهولة كليا.. بمعنى أن عدم تصدق سعيد قد يكون ناجما عن 100 سبب آخر غير البخل.. أما مع "لام الجحود" بقولك: "ما كان سعيد ليتصدق" فإن التركيب هنا نفى مع الفعل إرادة القيام به، وبالتالى أضاء جانبا نفسيا أو سلوكيا أو فكريا من جوانب شخصية الفاعل. وكل هذا بفضل حرف.. مجرد حرف. هذا الحرف يُعد أسلوبا بلاغيا مستقلا بذاته، ومن ثمّ فمن الطبيعى أن يكون النص المهيمن (القرآن العظيم) قد نسج على منواله بعض جدائله اللغوية الراقية، وهذا ما نجده فى (20) آية كريمة، جاءت لام الجحود فى (17) منها تالية لصيغة الماضى التقريرى "ما كان"، و(3) تالية لصيغة المضارع التصويرى "لم يكن"، ولم "أكن". ومن نماذج هذا الاستخدام الآية السابقة: {وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله}، فالصياغة هنا تبنى مضمونا اعترافيا يزاوج بين التقرير والتصوير، الأول يؤديه الماضى الذى يفيد ثبوت الحدث "كنا"، والثانى يؤديه المضارع الذى يفيد التجدد والاستمرارية "نهتدى"، والتجدد والاستمرارية تعنى الحاضر والمستقبل، وبالتالى فهذه الصياعة تحيط بحياة الإنسان (ماضٍ وحاضر ومستقبل) لتقطع بـ"دوام" ضعفه، و"ودوام" حاجته المطلقة لخالقه، حيث لا يمكنه الاستغناء عن معيته، هنا يأتى دور "لام الجحود" "لتغلق" هذا المدلول (الضعف والحاجة) بتأكيده قطعيا، فهى تنفى "القدرة" على الهداية ـ حتى مع "الرغبة" فيها أو محاولة الوصول إليها ـ إلا بتوفيق الله. وربما نحتاج إلى مثال أخير لنؤكد به عمل هذا الحرف الرائع، وأختاره من قوله تعالى على لسان إبليس: {قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حما مسنون} (الحجر: 33)، لام الجحود توسطت فعلين مضارعين (أكن وأسجد)، لتتغلب الصياغة التصويرية على مشهد العصيان فيتجدد حيا متحركا أمام كل جيل ليناسب استدامة العقوبة واستمراريتها، بينما تلعب لام الجحود دورها فى نزع التعاطف مع أبليس بكشف شخصيته منطوية على الكبر والإحساس المتضخم بالذات. إنها اللغة العربية.. لغتنا الوطنية الثالثة..



الاكثر مشاهده

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

بدعوة من دولة رئيس الوزراء الباكستاني.. العيسى خطيباً للعيد بجامع الملك فيصل فى إسلام آباد

علماء العالم الإسلامي يُرشحون مركز الحماية الفكرية لإعداد موسوعة عن "المؤتلف الفكري الإسلامي"

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

10 أسئلة وإجابات حول تعديلات قانون تملك الأجانب للأراضى الصحراوية.. برلماني

;