التاريخ الإسلامى ممتد منذ بعث الله نبيه الكريم سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، وبه الكثير من الأفراح والأحزان، أما الأفراح فنحه نعرفها جيدا، تمر علينا سريعا، نشعر ببهجتها، لكننا عادة لا نتعظ منها، الأحزان وحدها القادرة على دفعنا للتـأمل والوقوف أمامها، ومن أحزان التاريخ الإسلامى "وفاة السيدة خديجة بنت خويلد".
ورد فى الصحيحين حديث للسيدة عائشة، رضى الله عنها، قالت، استأذنت "هالة بنت خويلد" أخت خديجة، على رسول الله، فعرف استئذان هالة فارتاع لذلك فقال، "اللهم هالة!" فغرت فقلت "ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكت فى الدهر أبدلك الله خيرًا منها؟"، فتغير وجهه عليه الصلاة والسلام، وزجر عائشة غاضبًا، "والله ما أبدلنى الله خيرًا منها، آمنت بى حين كفر الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى منها الله الولد دون غيرها من النساء".
يدل ذلك على أن خديجة بنت خويلد سيدة فضلى، فهى أول المؤمنين وخير المدافعين عن الحق، اختارت بكامل حريتها أن تصبح جزءًا من المنظومة العليا فى زمانها، اختارت محمدًا، الفقير فى ماله، والغنى بأخلاقه وقيمه زوجًا لها، اختارته لأنه عندما عمل فى تجارتها كان أمينًا لم يخنها أبدًا، لذا عرفت قدره وقيمته.
عاشت السيدة خديحة مع النبى الكريم 25 عامًا، حبيبة ووزيرة وحامية، ما أغضبها ولا أغضبته، أنجبت له أبناءه ورعتهم خير رعاية، عاشت السنوات الصعبة فى الدعوة المحمدية، وقفت حامية له بما لها من نفوذ وعانت ابنة الأكرمين فى نهاية حياتها عندما كُتبت وثيقة الحصار الظالمة، وسيق المسلمون إلى الشِعِب، وقاطعتهم قريش وجوّعتهم، كانت خديجة مع رسول الله راضية محتسبة، تركت منزلها وخرجت حبيسة مع رسول الله بين جبلين، تُعانى كل ذلك على مدار سنوات الحصار الثلاث من شهر المحرم للعام السابع للبعثة وحتى المحرم للعام العاشر للبعثة.
وعندما رحلت فى العام العاشر للبعثة، لم يرث الرسول منها شيئا، أنفقت كل مالها فى سبيل الدعوة الحق، تركت له الأحزان التى استعان عليها بتقوى الله، لكنها رحلت تحمل بشارة من الله بدخولها الجنة ففى الحديث أنه "أتى جبريل النبى، صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربِّها ومنِّى، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب".
ظل النبى يذكرها بالخير دائمًا يكرم صاحباتها ويشير إلى فضلها، واحتفظ التاريخ الإنسانى لها بصورة عظيمة دالة على فضل الصالحات وقدرتهم على حسن الاختيار وتحمل النتائج مهما كانت.
وقد دُفِنت السيّدة خديجة في الحُجون، وهو جبلٌ يقابل مسجد العقبة، كان مقبرةً لأهل مكّة المُكرَّمة، وقد وردت عدّة فضائل لتلك المقبرة؛ إذ كانت تستقبل الكعبة بشكلٍ مستقيمٍ، وقد امتدحها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، كما قِيل إنّ فيها قبر والدته آمنة بنت وهب، وقبر عبدالرحمن بن أبي بكر الصدّيق.
كان موت السيدة خديجة واحدا من الأحزان الكبرىالتى شهدها التاريخ الإسلامي، فقد ترك رحيلها أثرا لم تمحه الأيام في نفس النبى وبناتها، وظلت مع الوقت رمزا حيا على التفانى والإيمان بالرسالة.