ياسر منجي يكتب: قُل: (وزيرة)، وقُل: (عميدة)، ولو قالوا: (قاعدة)!

من الظواهر الشائعة التي تحتاج تفصيلًا واستقصاءً في التداوُل اللغوي العربي المعاصر، إصرارُ الكثرة الغالبة على تذكير ألقاب المناصب والأعمال المُلحقة بأسماء النساء، بحجة وجود (قاعدة لغوية) تقول إن هذه الألقاب (لا تؤَنَّث)! والواقع أن هناك الكثير مما يغيب على مَن يتّبعون هذه القاعدة دون تَدَبُّر. فصحيحٌ أن عادة أغلب قُدامَى العرب عدم إدخال علامة التأنيث على الصفات المشتركة بين المذكر والمؤنث؛ غير أن ذلك كان مَرَدُّه لديهم أن أكثر ما يوصَف بها المذكر، لظروف تقسيم المناصب والأعمال بين الرجال والنساء لدى العرب قديمًا؛ وهو ما ذكره "الفَرّاء" بقوله: "لأنه إنما يكون في الرجال دون النساء أكثر ما يكون، فلما احتاجوا إليه في النساء أجروه على الأكثر من موضعيه". وقد أجمع على ذلك، بخلاف "الفَرّاء"، كلٌّ من: "المفضل بن سلمة"، و"ابن الأنباري"، و"ابن سيده"، و"الزمخشري"، و"أبو حيان"، و"ابن عقيل". غير أن آخرين أجازوا لحاق تاء التأنيث بألفاظ هذه الألقاب والمناصب؛ كأن يقال: "أميرة بني فلان". بل إن "ابن سيده" نفسه – وهو مِمَّن سبقت الإشارة إليهم من القائلين بالتذكير - استدل على جواز دخول التاء على الألقاب؛ بما سُمع عن العرب من قولهم: "وكيلات"، وقال: "فهذا يدل على جواز قولك: وكيلة"، كما ساق في ذلك شاهدًا شعريًّا، يتمثل في البيت التالي: فلو جاءوا ببرَّةَ أو بهندٍ لبايعنا أميرة مؤمنينا ومع تطور الزمن، وانفتاح الثقافة العربية على غيرها من الثقافات، وتفاعلها الحيوي مع ما استجَدّ من مِهَن ووظائف، اشتغل بها النساء والرجال، انتَفَى المُسَوِّغُ الباعث على تذكير ألقاب مناصب النساء، بزعم أن أكثر المشتغلين بها رجال! لذا، فقد أقَرّ "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة، في جلسته الرابعة والأربعين، المنعقدة يوم 21 مارس من عام 1978، لحاق تاء التأنيث ألقاب المناصب والأعمال في وصف المؤنث؛ وكان نَصُّ قرار المجمع على النحو التالي: "لا يجوز في ألقاب المناصب والأعمال - اسمًا كان أو صفة - أن يوصَف المؤنث بالمذكر فلا يقال: فلانة أستاذ أو عضو أو رئيس أو مدير". والغريب أن كافة المتشبثين بتذكير ألقاب مناصب النساء يتجاهلون هذا القرار تمامًا، كما يتجاهلون حقائق أخرى، مستقرة منذ آمادٍ طوال في أمهات كتب التراث والأدب والفكر العربي. فقبل قرار المجمع بحوالي سبعة قرون، ذكر الرحالة العربي الفَذّ "ابن بطوطة" (٧٠٣ﻫ/١٣٠٤م - ٧٧٩ﻫ/١٣٧٧م)، في كتابه الأشهر "تحفة النُظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" ما يفيد أمرين مهمين: أولهما أن لفظ "وزيرة" كان اسمًا من أسماء النساء المعروفة في الأقطار الإسلامية لزمنٍ سابق! وهو ما نستخلصه من إشارته في كتابه المذكور إلى واحدة من الفقيهات المُحَدّثات المشهورات، وهي "وزيرة بنت عمر بن المنجا"، والتي أشار "خير الدين الزركلي" (1893 – 1976) لاحقًا في كتابه "الأعلام" إلى أنها كانت تُعرَف كذلك باسم (سِتّ الوزراء). أما الأمر الآخر الذي يُستفاد من كتاب "ابن بطوطة": فهو أن لقب (وزيرة) كان معروفًا ومستخدمًا في الإشارة للنساء من متقلدات شؤون الحُكم والتدبير لدى المسلمين؛ وهو ما يُلاحظ بوضوح تام في سياق حديثه عن حاشية "الخاتون الكبرى"، زوج السلطان التتري المسلم "محمد أوزبك خان" قائد القبيلة الذهبية؛ إذ ذكر أن الخاتون تقعد في عربتها "وعن يمينها امرأة من القواعد تُسَمَّى أولو خاتون، بضم الهمزة واللام، ومعنى ذلك (الوزيرة)، وعن شمالها امرأة من القواعد أيضًا تسمى كُجُك خاتون، بضم الكاف والجيم، ومعنى ذلك (الحاجبة)". وفي القرن الخامس عشر، نجد لدى المؤرخ المصري "ابن تغري بردي" (813 هـ / 1410م - 874 هـ / 1470م)، في كتابه "المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي" استعمالًا للقب (وزيرة)، في سياق ما ذكره عن شخصية "بغداذ خاتون بنت النوين جوبان"، التي وصف حالها بعد زواجها من ملك التتار بأنها "صارت عنده مكينة، لها الحكم في الممالك، ولها (وزيرة)". وفي القرن السادس عشر الميلادي، نرى الفقيه المُفَسّر المصري "شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي" (المتوفى عام 977 هـ/ 1569-1570م)، يصف العين بأنها "(وزيرة) القلب"، في تفسيره "السراج المنير"، خلال شرحه للآية 53 من "سورة الأحزاب". أما المفكر الأديب الفقيه الشيخ "مصطفى عبد الرازق" (1885 – 1967)، أستاذ الفلسفة الإسلامية، الذي تولى وزارة الأوقاف المصرية ثمانيَ مراتٍ، وتقلد مشيخة الأزهر ما بين عامَي 1945 و1947، فيخاطب الأديبة "مي زيادة" (1886 – 1941)، في رسالة أرسلها لها عام 1927، بقوله: "سيدتي الآنسة العزيزة، إن لم تكوني وزيرة، ولا من المستوزرات، فإنك أميرة النهضة النسوية في الشرق...". فهل نحن أبلغ من "مصطفى عبد الرازق" و"مي زيادة"؟!










الاكثر مشاهده

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

بدعوة من دولة رئيس الوزراء الباكستاني.. العيسى خطيباً للعيد بجامع الملك فيصل فى إسلام آباد

علماء العالم الإسلامي يُرشحون مركز الحماية الفكرية لإعداد موسوعة عن "المؤتلف الفكري الإسلامي"

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

10 أسئلة وإجابات حول تعديلات قانون تملك الأجانب للأراضى الصحراوية.. برلماني

;