فى صمتٍ وهدوءٍ يجمع عام 2018 أوراقه ويستعد للرحيل، وهو يعلم بأن أحداً لن يكون فى وداعه، فالجميع مشغولون بالإعداد لاحتفالاتٍ صاخبةٍ ابتهاجاً بالعام الجديد، يتسللُ عام 2018 فى خجلٍ لا يخلو من عتابٍ بين جموع المحتفلين فى آخر لحظات عُمرِه وهو يُنصِت إليهم متمنياً أن يسمعَ منهم كلمةَ شكرٍ فلا يفعلون، ينظر إلى أعيُنهم لعلّه يجد فيها شيئاً من عطفٍ وحنانٍ يُهوّن عليه ألَمَ الفراق فلا يجد إلا نظراتٍ قاسيةً تُوبخه وتُلِح عليه بسرعةِ المغادرةِ لإفساحِ المكانِ للقادمِ الجديد، هى ثانيةٌ واحدةٌ تفصل بين موتِه ومولدِ العامِ الجديد وحينما يلفظ أنفاسَه الأخيرةَ تنطلق الألعاب النارية فرحاً بالمولود الجديد ولاعزاءَ لهذا الشيخ الذى رحل فقد أصابَه الكِبَر وانقَضّتْ عليه الأمراض وخيرٌ له أن يستريح .
تمضى الأيامُ وتنقضى السُنون ويظل هكذا حالُ الكثيرين منّا فلا نذكُر مامضى منها إلا بمواقفَ صعبةٍ وتجاربَ سيئةٍ ولانذكر لها أحداثاً وذكرياتٍ سعيدةً عشناها إلا قليلا، نطوى سريعاً سِجل الماضى ونُغلق دفاتره دونما نعتَبِر من تجرِبةٍ أو أخطاء نكون قد وقعنا فيها لكى نصححَ مسارَنا أونستلهم منه فكرةً نبنى عليها لمستقبلنا أفكاراً عديدة ، نُلقِى دائماً باللوم على أيامٍ وسنينَ مرّت ، ولم نتوقفْ مرةً واحدةً مع أنفسنا لِنسألَها هل أخطأتْ فى حقنا الأيامُ أم نحن الذين أخطأنا بحقِ أنفسنا ؟
هل أصبح كلُ شىء مَرّ عليه الزمن بالنسبة لنا كحديدٍ أكله الصدأ لايُفيدنا فى قليلٍ أوكثير؟ هل أصبحت تجارب مَن سبقونا مجرد أوراقٍ مبعثرةٍ على الأرضِ هنا وهناك لا نهتم حتى بمجرد جمْعِها وترتيبها؟ ألم يلفت انتباهَنا ورقةٌ منها نقرؤها عسى أن يكون بها ما نتعلّم منه لأنه من المؤكد أن بها تراثاً كتبه مَن هو أكثرُ منّا تجربةً وخبرة؟ هل وجد بعضُنا ضالّته فى نفسه فقط لايثق إلابها ولا يأتمِر إلا بأمرِها؟ ينظرُ بعينِ السخريةِ والازدراءِ لكل موروثٍ حضارىٍ أو ثقافىٍ أو فنى تركَتْه لنا أجيالٌ سبقتنا بِحجة أنه من الماضى ولا يصلح لنا؟ وهل من الصواب أن ياتىَ جيلٌ بعضُه لا يُقدّر ولا يحترم ولا يأخد رأيا ًولا حكمة ولا مشورةً ولا تجربةً من كبيرٍ ربّاه وعلّمه بحجة أن تفكيره قديم لا يناسب جيل العصر الباحث عن كل ما هو جديد حتى ولو كان ذلك الجديد مجهولا؟ وهل هانت علينا رموزٌ وطنية ٌ تعاطت باقتدارٍ مع ظروف عصرِها حتى ننظرَ إليها اليومَ بعين التقصيرِ والتشكيكِ فى إنجازاتها بل وربما الافتراء عليها أحياناً ؟
عامٌ يوشك أن يرحل ، وربما يكون قد حمل لنا ذكرياتٍ حزينةً، لكنه فى المقابل احتفظ لنا بذكرياتٍ وأحداثٍ تُسعدنا كثيراً عند استعادتها، وليس من الأصالة ـ كلما أوشك عامٌ على الرحيل ـ أن نُغلق دفاتره ولا نتذكر منها إلا ما كان مؤلماً وليس من الانصاف أن ننسى أو نقللَ من شأن ماضينا فلنا فيه تراث ٌ هائلٌ من قيمٍ ومبادئَ وتجاربَ وانجازاتٍ وفيضٍ من حكمةٍ تركه لنا الآباء والأجداد وعلينا أن نهتدىَ ونقتدىَ بهم عند تطلعنا للمستقبلِ .
وعلى الأبوابِ عامٌ جديدٌ اقتربَ منّا وهو فى حُلّةٍ زاهيةٍ وبيدٍه سِجلٌ صفحاتُه بيضاءُ ناصعةٌ تبدأ بمقدمةٍ ترك لنا حرية َالاختيار لنُسجل فيها مانشاء من عباراتِ البهجةِ والسرورِ والتفاؤلِ بقدومه، والأمنيات التى نرغب فى تحقيقِها والخطواتِ التى سنسلُكها والوسائل التى سوف نستعين بها، غير أنه حذّرنا ودعانا إلى التمهلِ والتفكرِ والتدبرِ طويلاً قبل الكتابة فى باقى الصفحات ، لأن ماسوف نُسجله بها لن يكون بالإمكان مَحْوه بل سيظل راسخا ًإلى الأبد ، ونبّهنا إلى أن الأمر بأيدينا فإمّا أن نُحسِن الكتابةَ لتكونَ مبعثَ فخرٍ له بين غيرِه من الأعوام بسجلٍ مضىء، وإمّا أن نُلطّخ أوراقه بحبرٍ أسودَ ونطوى سجلّه سريعاً ولا نرغب فى العودة إليه ثانيةً لنجعَله بذلك مَدعاةً للسخرية ِوالتشاؤمِ بين أقرانه بسبب جريمةٍ لاذنبَ له فيها لكن نحن من سطّرها على صفحاته.
ومع اقترابِ نهاية ِعامٍ وحلولِ عامٍ جديدٍ على كل ٍ منّا أن يتوقفَ طويلاً عند كشفِ حسابٍ يكون قد أعدّه لنفسه بموضوعيةٍ شديدة، يُقلّب أوراقه ويتوقف عند كل واحدةٍ منها ليسألَ نفسَه ما الذى يجب أن أتوقفَ عنه؟ وما الذى يجب أن أستمرّ فيه ؟ ما الطريق الخطأ الذى سلكناه حتى نتوقفَ عن السير فيه ؟ وما الطريق الذى كان خافياً عنا حتى نسلكه؟ وما الشىء الناقص الذى وجب علينا استكماله؟ ومتى فعلنا ذلك سيكون بإمكاننا الانطلاق نحو عامٍ جديد ٍنتفاءل فيه بالخير انطلاقا ًنحو مستقبلٍ أفضل غير أن الانطلاق نحو هذا المستقبل لا يكون إلا من خلال الارتكاز على قاعدةٍ صلبةٍ من القيمِ والتجارب والثوابت والقدوة عندها ستكون عملية الانطلاق ناجحة ًوستضيف كثيراً إلى ما ارتكزت علية ونهلت منه وسوف تُحَسّنه وتدفعه للأمام.