إسماعيل الخيـط يكتب: الهجرة الافتراضية

بينما كنت أعيش طفولتى فى الريف، فإذ بى فى أوقات معينة من السنة أجد أسرابا كثيرة من طيور مختلفة تمكث فترة تقترب من الشهر فى منطقتنا، ثم تواصل طيرانها إلى مكان أجهله، وكنت أراقبها عن كثب فكانت معظمها تطير نهارًا فقط، وتبيت ليلًا على أعالى الأشجار حال كان حجمها صغير ووزنها بالتبعية خفيف، وأخرى كانت تبيت على الأرض لكبر حجمها وثقل وزنها وبطء طيرانها؛ فكانت تلك الأخرى تمثل هدفًا وصيدًا ثمينًا لى وأقرانى، فكنا نخرج ونصطادها ونستمتع بشهى لحمها بعد تأكدنا من قابلتيها للأكل. هذا، وكانت تلك الوقائع قد سيطرت على كامل وجدانى فكنت أسأل نفسى لماذا تلجأ أغلب الطيور للانتقال من أماكن لأخرى؟ وهذا كان قبل علمى أن تلك الظاهرة تسمى "هجرة" بعدما سألت أحد أساتذتى بالمدرسة الابتدائية، وأتاح لى كتبا مصورة تشرح الهجرة فى أبسط صورها. وأصبحتُ محملًا بتلك الصورة الذهنية الساحرة عن عالم الطيور والكائنات الحية، ولم أكن أعلم أن القدر يخبىء لى أن هذه الظاهرة – الهجرة - ستكون مستقبًلا أحد أفرع تخصصى العلمى الدقيق، والذى للأسف يعتبر أقلها بحثًا من قِبل العائلة الديموجرافية؛ نظرًا لعدم توافر بيانات كافية عن الهجرة من خلال المسوح المتخصصة كنظيراتها المواليد والوفيات. وبعد الدرس والاطلاع تعلمت أن الهجرة غريزة طبيعية فى أغلب الكائنات الحية، ويمكننى تعريف الهجرة وذكر أسبابها على النحو الآتى: فالهجرة ببساطة تعنى تحرك الكائنات الحية من منطقة جغرافية إلى أخرى تبعًا لاختلاف المواسم المناخية، وهذا التحرك الغريزى ناجم عن انخفاض مصادر الغذاء فى أماكنها الأصلية بسبب تغيُر المناخ فى المواسم المختلفة، وأيضًا لهدف هام آخر هو الحفاظ على النوع من الانقراض عبر وظيفة التكاثر التى تُعتبر المناطق الدافئة أكثر ملائمة لإتمامها بنجاح. تعتبر الهجرة حسب علم السكان (الديموجرافيا) أحد أضلاع المثلث الذى تُعبر مجتمِعَه عن تغيُر هيكل السكان بعد المواليد والوفيات، فتزيد السكان بالمواليد وتنقص بالوفيات، وتزيد وتنقص فى أن واحد بالهجرة؛ تزيد فى حالة الهجرة الداخلية من الريف للحضر فى بعض المحافظات وتنقص فى أخرى، وتنقص فى حالة الهجرة الخارجية، وفى حالات قليلة تكون هجرة وافدة إلى داخل البلد تزيد من عدد السكان المقيمين فى بلد ما (العمالة الوافدة). وتنقسم الهجرة إلى تصنيفات مختلفة حسب مجال البحث، فهى هجرة شرعية تهدف لانتقال وسريان العمالة والوظائف المختلفة بين البلدان بما يُشكِل تيارات هجرة خارجية، وقد تكون داخل البلد الواحد كهجرة داخلية بين التقسيمات الإدارية كما أسلفنا، ونظرًا للتطور التكنولوجى الهائل فى سُبل الاتصالات والمواصلات والسفر السريع والذى أفرز أنماطًا مختلفة من السلوك الإنسانى والسيولة فى الحركة أو القيود عليها بين الدول؛ مما أعاد تصميم حسابات وقوانين وقواعد الهجرة وأصبحت أكثر تعقيدًا الذى بدوره أنتج سلوكًا آخر يسمى الهجرة غير الشرعية وهى ببساطة أى نمط متعلق بالانتقال من بلد لآخر عبر كسر تلك القيود والقوانين المُحددِة لكيفية وآلية الحركة فى إطار كلى يشترك فيه أغلب بلدان العالم، وآخر جزئى قد تفرضه الدول صاحبة النظرة الانتقائية فى الهجرة حسب تخطيطها ورؤيتها السكانية الداخلية ومستوى مواردها وقدرتها على الاستيعاب السكانى، وهذا رأيناه جليًا فى رفض دول بالإتحاد الأوروبى دخول اللاجئين السوريين لأراضيها، وقبلت بعد ذلك بتقسيم اللاجئين وفق نسب عادلة – من وجهة نظرهم - على البلدان الأوروبية، أما فيما يتعلق بالانتقائية أى الاختيار الدقيق والمتأنى للمهاجر وفق مراحل متتالية من الاختبارات والتأهيل ولنا فى أمريكا وكندا مثل، فتلك الدول لا تأخذ شخصًا يمثل عبئًا عليها ويخصم من مستوى الرفاهية (المادية) لمواطنيها. وبهذا فإن المقاييس التى تقوم عليها الانتقائية هى مقاييس وظيفية متعلقة بالكفاءة وليست مقاييس إنسانية أو تراحمية، حيث من الممكن فى هذه المنظومة رفض طلبات لجوء للمسنين والمرضى وكذلك الأم الحامل أو التى لديها أطفال صغار، وهذا لأنهم حسب الرؤية العلِمانية لتلك الدول ضعفاء منخفضى أو منعدمى الكفاءة، وتكلفة إعالتهم مرتفعة اقتصاديًا، فالرحمة والإنسانية ومفهوم الأسرة تلك مفردات غير موجودة بالقاموس العِلمانى، فهو لا يكترث إلا بالأقوى والأسرع والأكفأ والأكثر استقلالية وبالتبعية الأكثر إنتاجية وتلك المفردات تطغى على شتى مناحى الحياه فى المأكل والمشرب والملبس والمسكن، والعمل...إلخ. وبيئة الهجرة المعقدة آنفة التفصيل خرجت بنموذج معرفى جديد حول الهجرة أستطيع تسميته (الهجرة الافتراضية)، وهى ببساطة نوع من الانتماء الفكرى من قِبل تيارات من الأشخاص أغلبهم شرائح شبابية إلى جغرافيات مختلفة من العالم خاصة دول العالم الأول الذى تمثل الحُلم الجمعى لهم، وخلَق هذا الانتماء المجتمعات الافتراضية عبر وسائل الاتصالات المختلفة، فتوجب أن يكون مصاحبًا لتلك المجتمعات الافتراضية (هجرة افتراضية) بين المواقع الالكترونية ومن جزيرة رقمية لأخرى ينتمى لها الإنسان بفعله وتأثيره وتأثُره لا بجسده عبر العالم الافتراضى واسع الضِيِق، والخطورة فى مفهوم الهجرة بعد تحوُره كفيروس عالى التكيُف إلى هجرة افتراضية أن كافة القيود والقوانين المنِظِمة للهجرة التقليدية لا تسرى على مفهومها الجديد؛ فتؤدى إلى خصَم مُستدام من فعالية وتأثير الشعوب وتفاعلها وتعارفها فيما بينها، وهنا يوجد تناقض فأغلب تلك الدول التى تُمثل حُلم المهاجر– تُعلى من شأن الجسد كمادة – لا تكترث للقيم الإنسانية كما أسلفنا، فهى تعتبر الإنسان وتصنفه من الأشياء لديه قابلية لأن يُبَاع ويُشتَرَى مثال على ذلك؛ انتقالات لاعبى الكرة بين الأندية المختلفة بدعوى الاحترافية، فتلك المجتمعات الافتراضية هى ذروة ما وصلت إليه المنظومة العِلمانية وهى فى طريقها للزوال؛ لأنها تحمل فى تكوينها عوامل هدمها، فهى لا إنسانية لا تعترف بالجمال والطمأنينة والعدل والحب، فتلك مفردات يعجز العلم عن إدراكها بالقياس الكمى كما وضحها المفكر د. عبد الوهاب المسيرى على صفحات من نور فى موسوعته الأشهر "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية". وأخيرًا..من يقرأ للمفكر الفذ الدكتور عبد الوهاب المسيرى تتعطل لديه خاصية الانبهار بالغرب، خاصة بعد ما أصبحت جزءًا أصيلاً - built in– فى جيناتنا الكامنة فى DNA العربى على وجه العموم والمصرى خاصة. الخلاصة..حتى لا تتبدد جهودنا فى التنمية واستدامتها، لابد أن نُجرى مسوح متخصصة للهجرة حتى يتوازن التخطيط السكانى فى مصر؛ ليصبح مثلث مكتمل ومتساوى الأضلاع (مواليد، وفيات، هجرة).



الاكثر مشاهده

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

;