لا أعتقد أن هناك طاغية أو ديكتاتور فى العالم يولد بفطرته، وأن من حوله للأسف هم من يغذون لديه تلك الصفات، ويدعمون فيه تلك الجينات، حتى يظن أنه بفكره المتخلف، وذكائه المحدود، وعبقريته الضحله، يجدد ويطور، ويبدأ فى الانحدار بالبلاد دون أن يدرى، و يعيش فى وهم لا يرى ولا يسمع فيه سوى تصفيق وثناء الحاشية، التى تنسج له من الأوهام ما يجعله يعتقد أنه يحسن صنعا.
فمنذ عدة سنوات، سافرت فى رحلة بصحبة الرئيس الليبى الراحل "معمر القذافى" إلى جمهورية "النيجر" التى تعد طبقا لتصنيف الأمم المتحده ثانى أفقر بلاد العالم، فى رحلة كان من المفترض أن تستغرق أقل من 12 ساعة، لحضور احتفالية دينية بمناسبة المولد النبوى الشريف، والعوده فى ذات اليوم.
وبالفعل هبطت بنا الطائرة فى مدينة (أغاديس) وسط الصحراء، فى أغرب مطار من الممكن أن تراه فى حياتك، وسط مساحة شاسعه من الأرض الترابية المحاطه بسور من الطين، اعتلاه مئات الأطفال العراه أو نصف العراه، ويتوسطها مهبط واحد، وفى أحد جوانبها كشك خشبى لا يزيد عن عن 3 أمتار فى 3 أمتار يستخدم كجوازات.
وبمجرد أن انطلقت بنا الحافله إلى خارج المطار، أخرج عدد من طاقم القذافى كميات كبيرة من "التشيرتات" المطبوع عليها صورته، وأخذوا يلقونها على الأطفال طوال الطريق، وسط صراع رهيب من الأطفال والكبار فى الحصول عليها من على الأرض، لدرجة أنه فى الصباح وجدنا كل أطفال المدينة يرتدون تلك التيشرتات التى كانت تغطى كامل جسدهم تقريبا.
وصلنا إلى الفندق الوحيد فى المدينة، واكتشفنا أن سعته 33 فردا فقط، فى حين أن الوفد يضم نحو 90 شخصا،فضطررنا إلى تسكين السيدات وكبار السن، وتركنا متعلقاتنا البسيطة فى الاستقبال، لأنه من المفترض أننا سنحضر الاحتفالية ونغادر فى المساء.
وما هى إلا ساعات، حتى انطلقت بنا الحافله إلى مكان يشبه الساحات الشعبية المتخلفه، حيث تم إعداد مسرح جلس عليه "معمر القذافى" و"محمد طنجة" رئيس النيجر فى ذلك الوقت، والرئيس السودانى "عمر البشير" ورئيسين إفريقيين اخرين لا اتذكرهما،بينما افترش كل الحضور الأرض التى تم إعدادها كساحة للصلاة.
وما هى إلا دقائق حتى بدأت الاحتفالية التى لم يتحدث فيها من بدايتها إلى نهايتها سوى القذافى، فى الوقت الذى لم يقترب فيه رئيس الدولة المستضيفه "محمد طنجة" من الميكروفون، وظل الرؤساء الـ 4 طوال الوقت مجرد متفرجين فوق المنصة.
حيث بدأ الاحتفال بأيات من القران الكريم، أعطى القذافى بعدها الأوامر بأذان المغرب، وقام بإمامة المصلين، وعقب الصلاة، أمسك بالميكروفون وألقى خطبة شن خلالها هجوما على أوربا وأمريكا، مؤكدا أنهم يحاولون ايقاع الفتن بين المسلمين من خلال افتعال الأزمات بين السنة والشيعة، مؤكدا فى نهاية حديثة، أن الحل الأمثل لتلك الأزمة هو "الدولة الفاطمية",
ثم أمر القذافى بالاذان لصلاة العشاء، وأم المصلين أيضا، وعقب انتهاء الصلاة، جاء بنحو 10 أفارقه من غير المسلمين، رددوا خلفه الشهادة وأعلنوا دخولهم الاإسلام، وأنهى الاحتفال.
الغريب أن حاشية القذافى تركوا كل ما قاله الرجل من كلام منطقى وعاقل عن الفتن والمؤامرات التى يتعرض له العرب والمسلمين، وبدأوا يروجون ويتحدثون عن عبقرية فكرة "عودة الدولة الفاطمية" والجميع فى ذهول مما يقولون.
ولعل أظرف ما فى الأمر، أنه كان من المفترض أن نستقل جميعا الطائرة ومغادرة النيجر بعد حفل العشاء الذى نظمة القذافى عقب الاحتفالية، إلا أننا فوجئنا بأنه أصدر أوامر ببقاء الوفد كاملا حتى مساء اليوم التالى، وهو ما وضع الجميع فى ورطة، فلا مكان للمبيت، ولا أحد من الوفد لديه ملابس نوم، أو ملابس تكفيه ليوم أخر.
وأضطرر أغلب اعضاء الوفد إلى المبيت على الكنب والكراسى فى مدخل الفندق، بعد أن عجز المنظمون عن تدبير أماكن للاقامة ـ باستثناء عدد محدود للغاية، ومرت الليله على الجميع دون نوم.
وفى الصباح الباكر طلب القذافى لقاءنا، وانطلقت بنا الحافلة إلى خيمة القذافى، حيث وجدنا وفود من "أدغال أدغال" إفريقيا يرتدون ملابس غريبة، وقد جاءوا بملوكهم يبايعون القذافى ملكا لملوك أفريقيا، وظلت الهتافات تملاء الخيمة باللهجات الإفريقية المختلفة لساعات، شاهدنا خلالها أنواع من البشر، لا اعتقد أننى سأشاهدها مره أخرى.
ومع نهاية اللقاء، خرجنا لنجد سيول من الأمطار تهطل على "أغاديس" وكانت المفاجأة أن الطاقم الليبى من الرئاسة والخارجية والاعلام، كانوا اكثر الناس فرحا بالامطار، مؤكدين (أن السماء تحتفى بوجود القذافى فى النيجر، وأنه مع كل زيارة له لافريقيا لابد أن تمطر السماء فى البلد التى يحط فيها).
وعدنا من الرحلة العجيبة بعد يومين، دون نوم، وبالملابس التى خرجنا بها من مصر، تفوح منا جميعا رائحة المبيدات الحشرية التى وضعناها على أجسادنا وملابسنا خوفا من لدغ الحشرات الناقلة للأمراض فى أفريقيا، ولا حديث لطاقم القذافى سوى عن فكرته العبقرية بـ"عودة الدولة الفاطمية، والأمطار التى هطلت على أغاديس فرحا بقدومه".