يقول مواطن كونغولي “لقد كانت الحياة جيدة من قبل، ولكنها صارت لا شيئ الآن غير العذاب والمعاناة"
مأسي الكونغو عديدة وعميقة، وقد مرت منذ الاحتلال البلجيكي لها، في أواخر القرن التاسع عشر، ومنذ الاستقلال (٣٠ يونيو ١٩٦٠)، وحتى الآن بأشياء يندى لها الجبين.
من أسوأ تلك المآسي التي واجهتها في السنوات الماضية (منذ التسعينات وبداية الألفية الثالثة)، ولم يتم إلقاء الضوء عليها، بل تجاهلها كل من الإعلام والساسة كما ولو أن الأمر لا يعني أحدا! أن عدد القتلى وصل ما بين ٣ مليون حسب باحثين إلى ٥.٤ مليون قتيل حسب لجنة الإنقاذ الدولية.
تسبب الصراع وتوابعه في جمهورية الكونغو الديموقراطية (زائير سابقا) والذي انقسم إلى مرحلتين، المرحلة الأولى من ١٩٩٦ حتى ١٩٩٧ والمرحلة الثانية من ١٩٩٨ حتى ٢٠٠٣ في أن يجعل الكونغو واحدة من أفقر دول العالم حيث جاء ترتيبه ١٧٦ حسب تقرير الأمم متحدة الصادر عام ٢٠١٥ ، على رغم من ثرائها الطبيعي، فهي ثالث بلد أفريقي من حيث المساحة والتي تبلغ نحو مليونين وثلاثمائة كيلومتر مربع وتحوي أراضيها (خاصة شرق الكونغو وإقليم كاتانجا) على ثروة من المعادن، مثل معدن الكولتان الذي يدخل في صناعة التليفون المحمول (حيث يحتوي إقليم كاتانجا تقريبا٨٠ ٪ من الإحتياطي العالمي)، ومعدن النحاس وتعتبر الكونغو ثاني إحتياطي عالمي، ومعادن نفيسة أخرى مثل الكوبالت واليورانيوم والماس والذهب، مما جعلها مطمعا لكثير من الدول التي سعت وعملت حثيثا على التدخل والإستيلاء على تلك الثروات.
الدول المجاورة للكونغو، بالإضافة إلى دول غربية أخرى، عملت على تأجيج الصراع من خلال دعم الأطراف المتصارعة كل ضد الأخر، ومدهم بالمال والسلاح وذلك لهدفين أساسيين، الأول (وهو الهدف المعلن) هو الإطاحة برئيس الكونغو (زائير سابقا) موبوتو سيسيكو والذي حكم لمدة ٣٢ عاما وكان مدعوما من دول غربية وإقليمية حتى ذاك الحين، وقد حقق لوران كابيلا زعيم مجموعة من المتمردين والذي أنشاء ما أسماه “تحالف القوات الديموقراطية لتحرير الكونغو” (AFDLC) هذا الهدف بمساعدة عسكرية ولوجيستية من بعض الدول المجاورة، خاصة رواندا وأوغندا ثم أنجولا لاحقا مما أدى إلى دخوله العاصمة كينشاسا وتنصيبه رئيسا في مايو ١٩٩٧ بعد المقولة التي نقلت عن أحد المسئولين الأمريكين لموبوتو قوله “لقد إنتهى عهدك”.
أما الهدف الثاني والذي ظهر بعد ذلك فهو سيطرة شركات غربية على مناطق التعدين في شرق الكونغو وجني الثروات الطائلة من وراء استخراج تلك المعادن.
حرب التعدين .. “جيكامين”
يلاحظ أن الحرب في الكونغو زادها تعقيدا تدخل الشركات الأجنيبة المتعددة الجنسيات العاملة في مجال التعدين والتي كان هدفها الأساسي الحصول على عقود إمتياز طويلة الأجل، وقد نجحت في الحصول على ما تريد.
كان في الكونغو شركة تعدين وطنية هامة تدعى "جيكاماين" (Gecamine)، والتي كانت المسئولة الوحيدة عن استخراج المعادن في إقليم كاتانجا شرق الكونغو، وقد أنشأت "جيكاماين" مستشفى لخدمة عمال التعدين المحليين ومدارس لتعليم الأطفال مما جعل الحياة أفضل لسكان الإقليم.
عملت الشركات المتعددة الجنسيات على تحجيم دور "جيكامين" إلى أن نجحت في الإستيلاء على معظم مقدراتها بمساعدة لوران كابيلا بعد وصوله إلى الحكم حيث أعطى خمسة وعشرين شركة أجنبية حق إستخراج المعادن وبيعها بديلا للشركة الوطنية مما أدى إلى الإضرار بالشركة والعمال والسكان المحليين والتحكم بهم مما جعل حياتهم معاناة حقيقية.
مع إزدياد تدخل الشركات الأجنبية خاصة عن طريق العمولات التي كانت تعطى للحكومات المتعاقبة (قدرت ثروة موبوتو مع نهاية حكمه بثلاثين مليار دولار أما لوران كابيلا فقد أمر بنقل الأموال من البنك المركزي مباشرة إلى منزله) عملت الشركات إلى مساعدة المتمردين والعمل على إبقاء الصراع متأججا ومستعرا ما بين المتمردين والحكومات المتعاقبة مما أوجد حالة إحتياج دائم لوجود تلك الشركات، وليس هذا فقط، بل أن الشركات تمادت وإستقدمت تحت غطاء "شركات أمن خاصة" مرتزقة ليس فقط لتأمين أعمال التنقيب والتعدين بل للمشاركة في الحرب الدائرة وفرض عقود إذعان مجحفة على الحكومات.
الصراع في الكونغو والذي وإن في ظاهره صراع عرقي أما في باطنه فقد كان صراعا إقتصاديا بإمتياز تهدف من خلاله دول غربية وشركات متعددة الجنسيات على السيطرة على الثروات الموجودة في باطن الأرض وحرمان أصحاب الأرض من حقهم الطبيعي من ثرواته والعيش عيشة كريمة.
يقول الكونجولين “ إنها الحشائش الصغيرة هي من يعاني حين تدهسها الأفيال .. وتلك هي نحن”