محطة مصر تدق جرس الإنذار

رحلة الموت هذه المرة لم تكن عبر قطار يسير أو عبر سيارة شاء قدرها المحتوم أن تعبر مزلقان قطار فى منطقة ما.. ولكن هذه المرة الرحلة وصلت إلى رصيف القطار فى محطة مصر.. لم يكن الجالسون على الرصيف أو المارون عليه سواء الذين وصلوا من محطات أخرى أو الذين يستعدون للرحيل إلى محطة أخرى لم يكن الجميع يتخيلون انهم قريبون من رحلة الموت وأن القطار لن ينتظر ليقلهم إلى رحلة الموت، بل جاء إليهم مسرعا عبر سائق مهمل أو عمل مدبر يطيح بأحلام عشرات الأسر ولترتدى مصر السواد حدادا على أبنائها الذين اغتالتهم يد الإهمال التى لا تقل خطرا عن يد الإرهاب.. حوادث القطار التى أطاحت بأربعة وزراء بدءا من إبراهيم الدميرى الذى استقال بعد حادث قطار الصعيد والذى راح ضحيته 360 شهيدا، ثم رشاد المتينى بعد حادث أتوبيس أطفال منفلوط، فمحمد منصور، وأخيرا هشام عرفات. سكك حديد مصر، كما يطلق عليها، هى الثانية تاريخيا فى العالم من حيث تاريخ الإنشاء ومحطة مصر التى شهدت الحادث الأخير أقيمت عام 1853 وبها 11 رصيفا تستقبل يوميا 300 ألف راكب وهى الأكبر بين 705 محطات قطار فى مصر.. سكك حديد مصر ضخت فيها الدولة 12 مليار جنيه لتطويرها وبدأت شراء 2300 عربة و181 جرارا بمبالغ تتعدى المليار يورو.. الحادث الأخير الذى راح ضحيته عشرات الركاب ليس الأول ولن يكون الأخير مادمنا لا نهتم بالعنصر البشرى الموجود فى الهيئة.. الاهتمام بالعنصر البشرى ليس فقط برفع علاوته أو مكافأته ماديا، ولكن الأهم هو إعادة الانضباط لهذا العنصر أتذكر شكل كمسارى القطار فى الأفلام القديمة واهتمام السائق بكل التفاصيل فى القاهرة قبل قيامها، وأتابع ما يحدث اليوم الاهتمام بالمظهر وليس بالجوهر.. لا تدريبيا ولا انضباطا فى المواعيد ولا تطويرا للعنصر البشرى من خلال متابعته، فمشهد السائق المتهم أمام وائل الإبراشى فى حلقة قناة «أون» كفيل بالتأكيد على النوعية الغالبة لدى العاملين.. بلاهة واستهتار وربما شعور بأن شيئا لم يحدث، وبالتالى فلن يحدث له شىء هو الآخر. منظومة السكة الحديد لا تحتاج إلى تطوير ولكنها تحتاج إلى إعادة بناء من البداية.. عربات.. جرارات وأرصفة محطات خدمات، والأهم من يدير ذلك.. تكرار الحوادث فى السنوات الأخيرة فقط أكثر من 500 قتيل وآلاف المصابين منذ حادث قطار الصعيد الشهير مرورا بأتوبيس مزلقان منفلوط والذى راح ضحيته 54 طفلا حتى حادث محطة مصر الأخير والذى مازالت التحقيقات لم تكشف بعد عن السبب الحقيقى له. ما كشفت عنه كل تحقيقات القضايا السابقة هى أن تهمة الإهمال تقف وراء كل الجرائم وتنتهى القضية بحكم بالسجن على المتسبب يخرج بعده يمارس حياته العادية فجريمته ليست مخلة بالشرف وهذا عوار تشريعى فالمتسبب خطأ فى قتل 50 طفلا فى مزلقان منفلوط وعامل التحويلة فى حوادث كثيرة والسائق المهمل كل هؤلاء ينتهى بهم المطاف إلى السجن سنوات والعودة إلى الحياة تاركين مئات الأسر التى تحطمت نفسيا وماديا وانتهت وتغيرت حياة الكثيرين بسبب إهمال أدى إلى قتل خطأ، وفى حين يقبع المئات بتهمة عدم سداد شيك أو إيصال أمانة ويتدخل الرئيس لحل أزمتهم وتظل تهمة خيانة الأمانة معلقة بهم طيلة حياتهم.. من أدين فى قضية مالية ربما لم يمتد أثرها إلى أكثر من الدائن يطارده طيلة حياته، ومن يتسبب فى تدمير ممتلكات الدولة والأفراد والقتل وتشريد الأسر ينتهى به الأمر مدانا بالقتل الخطأ.. تشديد العقوبة حتى الإعدام يجب أن يكون فى مواجهة تهمة الإهمال الذى يؤدى إلى الوفيات.. المواجهة الثانية تعيدنا إلى القضية الأهم التى نواجهها دائما وهى التدريب المستمر وهو ما تفتقده كل الجهات الحكومية فدورات التدريب فى الغالب تحولت إلى فترة من الهروب من العمل وتنتهى غالبا بشهادة ورقية تفيد الحصول على الدورة، والمطلوب هو دورات جادة بإشراف منضبط تنتهى بامتحانات يرسب فيها من لم يجد التدريب ومن أهمل فى الحضور، ويثاب فيها المجتهد، هذه الدورات يجب ألا تكون فقط سببا للترقى ولكن لابد أن تكون سببا للاستمرار فى العمل.. التدريب المستمر والإثابة والعقاب شروط للنجاح فى العمل، تأتى بعد ذلك المتابعة المستمرة وهو ما نفتقده فى كل مؤسساتنا.. تكتفى بصدور توجيهات وتهديد بالوعيد والعقاب ثم ينتهى الأمر إلى النسيان. قضية السكك الحديدية اليوم أصبحت قضية مهمة، فالدولة التى واجهت قطار الربيع الأسود لا يجب أن تعجز عن تطوير قطار السكك الحديدية باعتباره أهم وسيلة مواصلات، وإذا لم نستعد من اليوم وبشكل جدى يشبه استعدادات القوات المسلحة للحرب فسوف تزيد خسائرنا خاصة ونحن نحلم بقطار فائق السرعة وآخر كهربائى وثالث يربط الإسكندرية بأسوان فى ساعتين أو ثلاثة. الاهتمام بالطرق وتجديدها وصيانتها نجح فى خلق شبكة جيدة أشاد بها الجميع، واليوم علينا أن ننقل هذه التجربة إلى السكك الحديدية التى من الممكن أن تتحول إلى أهم شريان يربط بين مصر وجيرانها سواء من الشرق إلى الغرب أو الجنوب.. والاهتمام بها لا يجب أن يتوقف فقط عند تحديث المعدات والأرصفة والقضبان وأجهزة المتابعة اللاسلكية والكاميرات.. كل ذلك هو أساسى فى تطوير المنظومة. ولكن يبقى العامل البشرى غالبا السبب وراء الحوادث وتبدأ من الاختيار ثم الاختبار والمتابعة وإلى أن يتم ذلك يجب أن نبدأ فورا فى الكشف والتحليل وأيضا الفحص لكل العاملين بدءا من السائق والمساعد وعامل التحويلة حتى مهندس الصيانة والمشرفين. تطوير مرفق واحد رغم ارتفاع التكلفة لا يجب أن يقف عائقا أمام دولة استطاعت أن تنتصر فى العديد من معاركها، والتطوير سوف يتم تعويضه من الخدمات المقدمة وعندما يعود القطار إلى سابق عهده منذ سنوات طويلة لن يتأخر الراكب عن المساهمة فى تكلفة التطوير. حادث محطة مصر جرس إنذار مهم وأخير لجهات عديدة عليها أن تفكر فى طرق عملها وتضع أسسا صحيحة ومتابعة جيدة حتى يلحق هذا المرفق بما يحدث فى مصر من نهضة فى مجالات عديدة.



الاكثر مشاهده

رابطة العالم الإسلامى تنظم غداً مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" فى مكة

د.العيسى يلتقي رئيس جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر على متن سفينة "أوشن فايكينغ"

10 أسئلة وإجابات حول تعديلات قانون تملك الأجانب للأراضى الصحراوية.. برلماني

الشيخ العيسى: يمكن للقيادات الدينية أن تكون مؤثرة وفاعلة فى قضيةٍ ذات جذورٍ دينية

رابطة العالم الإسلامي تُدشِّن برنامج مكافحة العمى في باكستان

جامعة القاهرة تنظم محاضرة تذكارية للشيخ العيسى حول "مستجدات الفكر بين الشرق والغرب"

;