تعويض الضرر الناشئ عن إنهاء الخطبة

الخطبة مقدمة لعقد الزواج، وليست عقدًا في حد ذاتها، وقد شُرعت ليتعرف كل واحد من المخطوبين على الآخر، ويطمئن إلى استقرار زواجهما بتقارب الطباع والرغبات، والتشاور حول موضوعات قد تمثل نقاط خلاف بعد الزواج يؤثر على استقرار الحياة الزوجية واستمرارها، كنوع تجهيز مسكن الزوجية وما يتحمله كل طرف من ذلك، والإقامة مع العائلة، والسفر خارج محل الزواج للعمل ونحوه، وكيفية تعامل كل طرف مع أهل الآخر، كاشتراط زيارات معينة، وعمل الزوجة، ودراستها، ومستوى المعيشة والنفقة المطلوبة، وغير ذلك من أمور. فإن اطمأن كل طرف لملاءمة رغباته مع الآخر وتوجهاته وطريقة تفكيره وحالته النفسية والانفعالية وغير ذلك من أمور، أقدم على عقد الزواج مطمئنًا إلى استقرار زواجه وتحقيق مقاصده، وإن رأى أي منهما غير ذلك فإنه يمكنه الإنهاء الفوري للخطبة وكأنها لم تكن، حتى لو كان الطرف الآخر متمسكًا بالخطبة ورافضًا لإنهائها. وهذا لا خلاف حوله بين العلماء سلفًا وخلفًا، فمقصود الخطبة تحقيق مصلحة الزواج والحد من حالات الطلاق الناشئ عن اكتشاف اختلاف طباع وسلوكيات الطرف الآخر وعدم القدرة على التوافق معها، فإذا انتهت الخطبة ترتب على هذا الإنهاء بعض الآثار، كرد الطرف المنهي للخطبة ما أهدي إليه من الطرف المتمسك بالخطبة، واسترداد ما عجله الخاطب من المهر في حال الاتفاق عند الخطبة على دفع المهر إلى أهل المخطوبة ليكون تجهيز بيت الزوجية مسئوليتهم، وكان الخاطب قد دفع مبالغ مالية تمثل المهر المتفق عليه أو بعضه، فيحق له في هذه الحال استرداد ما دفعه من المهر إن كان ما زال نقدًا، فإن كان أهل المخطوبة قد اشتروا به أثاثًا أو غيره مما اتفق عليه، فحق الخاطب أن يأخذ ما تم شراؤه بماله، فإن تصالحوا على رد المال نقدًا، ويتملك أهل المخطوبة الأثاث المشترى، فلا بأس في ذلك. وإنما حُق للخاطب استرداد ما دفعه من المهر من دون نظر إلى كون إنهاء الخطبة من طرفه أو طرف المخطوبة - بخلاف الهدايا التي يكون ردها واجبًا على الطرف المنهي للخطبة فقط - لأن المهر في الزواج لا يجب قبل إنشاء عقد الزواج، فإن استمر العقد حتى الدخول استحقت الزوجة المهر كاملًا، وإن كان هناك طلاق قبل الدخول استحقت الزوجة المطلقة نصف المهر فقط، وحيث إن الخطبة ليست عقدًا، فإن إنهاءها لا علاقة له بالمهر أصلًا، وعلى ذلك فإن إنهاء الخطبة في ذاته لا يترتب عليه تعويض مالي حتى مع تضرر الطرف الراغب في استمرارها نفسيًّا؛ لأن إنهاء الخطبة حق لكل طرف لا يترتب عليه التزامات مادية، بخلاف الطلاق الذي هو حق للزوج دون الزوجة، وقد رتب عليه الشرع آثارًا مالية للمطلقة. ومع أن الخطبة لا يترتب على إنهائها تعويض مالي لذات الإنهاء، إلا أن هناك بعض الحالات التي تقتضي النظر في تعويض الضرر الناشئ عن هذا الإنهاء، غير الألم النفسي الذي يندر أن يخلو عنه إنهاء خطبة لأحد الطرفين أو كليهما، فهو ضرر محتمل لم يرتب عليه الشرع تعويضًا للمتضرر، ومن الأضرار غير النفسية التي تترتب على إنهاء الخطبة والتي تقتضي قواعد الشرع التي منها: (لا ضرر ولا ضرار)، و(الضرر يزال)، تعويض الطرف المتضرر من آثارها، من ذلك مثلًا ترك المخطوبة عملها تلبية لشرط الخاطب عند الخطبة، ولا سبيل لها للعودة لعملها، أو انتقال الخاطب من بلد إقامته للإقامة في بلد المخطوبة تلبية لشرطها عند الخطبة، كما لو كان موظفًا طلب انتقاله بوظيفته، فتم له النقل ولا سبيل لإلغائه، ويمكن أن يكون قد ترتب على الانتقال ترك مسكن مناسب كان يقيم فيه، كما لو كان مالكًا لشقة، فباعها واشترى بثمنها أخرى في بلد المخطوبة، أو كانت المخطوبة هي مَن فعلت ذلك بطلب من الخاطب، وغير ذلك من حالات واقعية. ولا تقتصر حالات التعويض على ما تحمله الطرف المتضرر بناء على طلب من الطرف الآخر، بل يدخل في ذلك أيضًا ما فعله أحد الطرفين من تلقاء نفسه لمصلحة الزواج المرتقب، كما لو خُطبت فتاة لرجل أعمال، فرأت أنها لا حاجة لها في عملها البسيط وقد ارتبطت برجل ثري، أو تركت عملها من تلقاء نفسها؛ لأنه غير مناسب لمنصب أو جاه خطيبها زوج المستقبل الذي يعمل بوظيفة مرموقة، ونحو ذلك من حالات يترتب على إنهاء الخطبة فيها أضرار جسيمة، فمتى كان للطرف المنهي للخطبة علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهذه الأضرار، فمن حق الطرف المتضرر الحصول على تعويض مناسب عما لحقه من ضرر، فلا ضرر ولا ضرار في شرعنا الحنيف، وإزالة الضرر واجبة من دون اشتراط، وليس من المعقول أن يتحمل الطرف المتضرر هذه الآثار المادية السلبية، إضافة للضرر النفسي المترتب على إنهاء الخطبة! ومن المعلوم أن المتسبب في شريعتنا كالفاعل المباشر للفعل، ولذا فإن المحرض على القتل أو الإحراق أو غير ذلك من أنواع الإضرار بالغير، يعاقب بذات العقوبة التي يعاقب بها الفاعل، فكان من المنطقي أن يتحمل الطرف المتسبب في الضرر الناشئ عن إنهاء الخطبة تعويض الطرف الآخر عن الضرر الذي لحق به بسببه، وهذا التعويض من الأفضل والأوفق أن يكون بالتراضي بين الطرفين بعيدًا عن ساحات المحاكم؛ لما يورثه التقاضي من ضغينة تنافي الإبقاء على الود وعدم نسيان الفضل بين الطرفين، حتى ولو كان بعد طلاق، وهو أكبر من إنهاء الخطبة دون شك، يقول الله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فإذا كان الود والفضل نهج شرعنا الحنيف بعد الطلاق مع ما يترتب عليه من أضرار جسيمة، فهو بالنسبة لإنهاء الخطبة أولى، فإن لم يكن بد من اللجوء للقضاء للحصول على التعويض المناسب عن الضرر الذي لحق بأحد الطرفين، فلا بأس عندئذ.



الاكثر مشاهده

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء

كبار فقهاء الأمة الإسلامية يجتمعون تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي

بدعوة من دولة رئيس الوزراء الباكستاني.. العيسى خطيباً للعيد بجامع الملك فيصل فى إسلام آباد

علماء العالم الإسلامي يُرشحون مركز الحماية الفكرية لإعداد موسوعة عن "المؤتلف الفكري الإسلامي"

;