التوقيع بالبصمة الصينى

على مقربة من عم منصور بائع الجرائد المثقف فى بلدتنا وأمام مسجد التحرير وهو من المساجد الكبيرة فى قنا، وجدتُ أحد معارفنا جالسًا مع زملائه يتسامرون ألقيت عليهم السلام، اشتريت الصحف التى اعتدت قراءتها، فأنا أنتمى للجيل الورقى الذى يمسك الصحف ويتلمس رائحة الورق، ومضيت إلى الجامعة، لكن فى اليوم التالى وبعده، وجدت الحلقة نفسها بل تزداد قليلاً قليلاً، وهنا سألته عن سبب هذه القعدة فى أوقات العمل، ففاجأنى: التوقيع بالبصمة، يعنى نوقع ونخرج نشترى متطلبات البيت ونشيّش (فعل مشتق من الشيشة) ونعود إلى العمل نبصم! ولأنه لم يعتد الجلوس فى المكاتب فآثر أن يجلس وزملاؤه فى الشارع والمقاهى حتى يحين موعد الانصراف البصمى، وهنا جاءتنى الفكرة، طالما الصين قامت بصنع جميع احتياجاتنا حتى الجنيه وسجادة الصلاة والجلباب البلدى والمسابح وأكفان موتانا وأغطية النعوش المزينة بآيات القرآن الكريم "كل من عليها فان" فلماذا لا تنقذ هؤلاء من هذه الورطة، وتأخذ بصمات الموظفين وحجم إبهامهم الأيمن والأيسر – خلّنا فى الضمان – وتصدر لنا أصابع بلاستيكية ويشترى كل مواطن إصبعه وعليه بصمته ويعطى بصمته لصاحبه يبصم له بها حال غيابه عن العمل وبذلك يكون موجودًا فى العمل بالبصمة الصينى" وموجودًا ببيته بالأصابع الحقيقية، وربما يتطور الأمر ويضع موظفو بعض المصالح أصابعهم فى عِقد طويل ويمرر أحدهم العقد فى الثامنة صباحًا وفى الثانية ظهرًا وندخل إلى المصالح الحكومية فنجد العقد معلقًا فى مسمار بالحائط فإذا سألت عن موظف أشار إليك أحد المنتدبين منهم إلى العقد؛ وقال ربما يأتى لكن طالما وقّع بالبصمة الصينى أعتقد لن يأتى.

اليوم! وإذا فشلت تجربة البصمة الصينى فربما يلجأ هؤلاء إلى ما لجأ إليه بعض معدومى الضمير قبل قرن من الزمان عندما بتروا إبهامهم حتى يتهربوا من التجنيد! وهنا ستظهر مشكلة صورة الباصم على الماكينة؛ وهذه حلها بسيط؛ ولعلكم تتذكرون حدوتة المرآة السحرية التى كانت أمى رحمها الله تعالى وأمهاتكم يحكينها لنا قبيل النوم وكانت هذه المرآة تحتفظ بصورة كل من تراه، فإذا ما جاء موعد البصمة أخرج مندوبهم العقد والمرآة السحرية معًا وبصم للغائب الأول ثم الثانى وهكذا إلى نهاية العقد! ومن أعجب ما رأيت فى مؤسسة كنت أشغل إدارتها وطبَّقت فيها التوقيع بالبصمة وانتظم العمل أسابيع قليلة لكن بعض الموظفين كانوا يأتون صباحًا ويوقّعون ثم يذهبون ولا يعودون إلا صبيحة اليوم التالى وبالرجوع للبصمة نكتشف أنهم وقّعوا انصرافا وبعد فحص اكتشفنا أن مبرمجا غيّر فى البرمجة، وألغى المدة البَيْنية بين الحضور والانصراف؛ فمن يبصم مرة فى التاسعة صباحًا حضورًا بإمكانه التوقيع فى التاسعة صباحًا ودقيقة انصرافًا! يا ناس كيف يستحل هؤلاء مرتباتهم؟ وهم يرون الناس يسألون عنهم فى مكاتبهم فلا يجدونهم؟ وكيف نبنى وطنًا من هؤلاء؟ وإذا كانت الإحصائيات تقول إن معدل عمل الموظف العام فى اليوم 27 دقيقة فهذه كارثة لا تحتاج إلى تشريع قوانين لاجتثاثها بل فى حاجة إلى من يطبق القوانين الموجودة، وإذا كان الشباب يتلهف على شغل وظيفة ولديه من الحماس فلماذا لا نحيل هؤلاء إلى التقاعد الجبرى ونوظف هؤلاء الشباب، لقد بنت ألمانيا بلدها بعد دمار حربين عالميتين، وقد حكى لى أستاذى الألمانى البروفيسور اشتيفان فيلد أنه وأسرته من عام 1943 حتى 1949 لم يكونوا يحصلون على وجبات ثلاث بل بون واحد للفرد بوجبة ضئيلة واحدة فقط يوميًا وكان هذا شأن الألمان جميعهم؛ فكان الكبار يدخرون من وجبتهم للصغار، وانظروا إلى ألمانيا اليوم. بلدنا فى حاجة إلى بناء وليس إلى تهرب من المسئولية.

أخشى ما أخشاه أن تلتقط الصين فكرة عقد الأصابع والمرايا ونرى العقود تباع فى الميادين العامة ورحم الله ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد الذى ما دار فى فكره أن الصين ستخترع بعد قرون على وفاته العقد الفريد العجيب.

•الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;