تلك الرواية أثرت في نفسي منذ أن كنا معا في "هانيبال"، البطلة كانت تمازحه بتلاوة كلمات شريرة من قصة إغريقية قديمة، والبطل كان صادما عندما حرقها!... ولولا أني أنتمي لجيل من الصحابة لكنت فقأت عينك لأنك رأيت مالا يجب عليك أن ترى، همس "علي" وتململ ثم مط شفتيه ومضى.
وفي صغره كان عمر متهما دائما بالشذوذ، فلما كبر وامتلأ جسده، واستدارت مؤخرته، لزم بيته، فالكلام القديم ستلوكه الألسنة، وما كان في صغره حديثا مقتضبا سيصبح طرفة مطبوعة بكل اللغات "حتى أتاه الوحي"... سقف الحجرة خانق، وصوت الجيران مزعج، هناك على الحائط "وزغ" يستحي مني، ويزحف على الجدار كالعنين المتسلل إلى فراش زوجته النائمة.
في الماضي وعن الماضي دائما ألف علامة استفهام، وحول علاقات الجنس وحدها ألف علامة تعجب، وهو لا يحب حديث الماضي رغم أنه مليء بالغزوات، "يوم أن أنقذ صديقه كان بطلا، ويوم أن ماتت حبيبته بين ذراعيه كان خنزيرا بريا"، هكذا تحدثه نفسه، وهكذا يوميا ينام، يصبح على عينيها، فيهرب منهما إلى عمله الجديد الذي لا طائل منه إلا الوجع النفسي.
الوطنية كانت دائما كلمة مؤرقة له، هل كان يحب بلاده عندما ضحى، أم كان محبا للخطر، والبطولة والدم!، هل كان يحب أن يرى في عينيها زهوا به عنما كان "جاسوسا محترما"!.. لقد ربح الرهان وعاد بدونها، وقد تراهنا يوما أن أحدهما سيحب بلاد الأعاجم فيبقى فيها ويعود بدون صاحبه، والمزاح كان قاسيا منه يومها فبكت، وارتعشت، ولفت يدها حول رقبته ونامت.
ولولا إذ دخلت جنتك، أي جنة يقصد النص القرآني، وحيواتنا جميعها عبث وتجديف وخرافة، كان موقنا تماما أنه لا زال رضيعا يمسك عبر شفتين صغيرتين بكامل ثدي أمه، ويحلم أثناء نومه بكل تلك التفاصيل العبثية، لكنه الآن أصبح مؤمنا أن الوجود نفسه عبث، والإيمان به مزحة، والاتكال على خالق مرض يستوجب أن يجد له من الطبيعة علاجا فاعلا، "استغفر الله العظيم"!
وتاهت بين كلماته، ثملت كثيرا بمفردات الحب، هو أحب حبها له، رغم أن ذلك النوع من الشعور صدقه كاذب وأكاذيبه صادقة، لكنه ظل على هذا المنوال في حبه لها حتى تزوجت، فتحول انبهارها بكلماته إلى نفور منه، وتحولت نظراتها الهائمة به إلى سخرية، فما كان منه إلا أن شنق نفسه!... هو يحب الألوان القاتمة، لأنه يرى، للعجب، أن تلك الألوان تعادي الغرور في داخله، وتقتل الكبر في نفسه، وتجنبه الفتن، وترضي عنه الله والرسول!.