انهيار جزء من جسر القرم "جسر كيرتش"، يعتبر أول تخطيط حقيقى في مسار الصراع الروسي الأوكراني، فقد بدأت "كييف" تخطط بصورة أكثر تنظيماً وإعداداً من ذي قبل، وتكتسب مهارات ميدانية تعلمتها من شهور الحرب الماضية، التي شهدت تحولات كبيرة، سواء بقدراتها الذاتية أو معاونة الحلفاء، الذين يدعمون تحركاتها في العلن والخفاء، بل ويخططون بالنيابة عن الجيش الأوكراني في مواقف عديدة.
قطع خطوط مواصلات العدو أو تخريبها وإعاقة الحركة عليها، وضرب السكك الحديدية، وتعطيل مسارات الإمداد، وحرمانه من احتياطياته القريبة والبعيدة، قواعد أساسية في تخطيط وإدارة الحرب، لذلك يعتبر تفجير جسر كيرتش أول عمل عسكري احترافي تنفذه القوات الأوكرانية ضد روسيا، حتى ولو لم تعلن رسمياً مسئوليتها عن تنفيذ هذه العملية، بما يشير إلى أن الأوضاع تسير في طريق جديد، ينذر بتطورات كبيرة في مستقبل هذا الصراع.
ما الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها جسر القرم ليتم تفخيخه؟ في البداية لابد من معرفة أن هذا الجسر يربط غرب روسيا بشبه جزيرة القرم، ويعتبر خط الإمداد الرئيسي للوحدات الروسية الموجودة في مقاطعة خيرسون، ومنها إلى جمهوريات دونتسك ولوجانسك وشرق أوكرانيا، الذي تسيطر عليه القوات الروسية، بالإضافة إلى أن الجسر ذاته يربط القرم مع مقاطعة كرسنودار كراى، واحدة من أهم المراكز التجارية الروسية، خاصة في مجال الصناعات الغذائية، ومركز مهماً لأنشطة الطاقة، وبعيداً عن كل ما سبق يظل الجسر له دلالة رمزية لسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم فى 2014، وطريق السيطرة على بحر آزوف شرقاً والأسود غرباً، وفقدانه يعنى خلل في السيادة على هذه المنطقة، التي مازالت أوكرانيا تطمح لاستعادتها حتى الآن.
جسر القرم عبارة عن طريق مزدوج، الأول للمركبات والشاحنات بأنوعها المختلفة، والثاني عبارة عن خط سكة حديد استراتيجي بطول 19 كيلو متر، يمكنه نقل الأفراد والمهمات والبضائع والمعدات العسكرية، وتكلفته بلغت 3.6 مليار دولار، ويربط بحر آزوف بالبحر الأسود، وأى تهديد أو انهيار لهذا الجسر يعني انقطاع الصلة بين روسيا وقواتها المقاتلة في الأراضي الأوكرانية، التي قد تتحول في أي وقت إلى غنيمة للوحدات الأوكرانية ومن يعاونها من مرتزقة.
رد الفعل الروسي على تفخيخ جسر كيرتش لم يستغرق وقتاً، فقد جرت عمليات إصلاح ضخمة، متوقع أن تنتهي آخر الأسبوع الجاري وفق ما أعلن موقع روسيا اليوم، كما أن الحركة عادت بصورة جزئية على الجسر، إلا أن موسكو لم تنس الحادث، واستخدمت الأسلحة التكتيكية، شديدة الدقة، لاصطياد أهداف داخل العاصمة الأوكرانية كييف، لتبرهن على قدرتها العسكرية، وذراعها الطويلة في حسم الصراع، وما قد تؤول له الأزمة حال استمرار استهداف منشآتها الحيوية على طريقة جسر القرم.
روسيا حاولت من تفجيرات كييف توجيه رسائل حاسمة بأنها ليست في حاجة إلى خطوط الإمداد التقليدية، وأن بمقدورها استخدام أسلحة أشد فتكاً ودماراً من داخل أراضيها إلى أقصى حدود أوكرانيا، دون أن تحرك جنودها أو معداتها، وتبين للعالم، على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وحلف الناتو أن قرار الحرب مازال بيدها، ومفاتيح الصراع لم تخرج من خزينتها، وهذا يشكل تحدياً جديداً في مستوى الصراع، خاصة إن استمرت أوكرانيا في التخطيط للحرب بصورة احترافية كما حدث يوم السبت الماضي، لذلك أتوقع أن الفترة المقبلة سوف يصل الصراع مداه، ومن هذه النقطة يمكن البحث عن حلول وتسويات للخروج من هذه الأزمة.