نيويورك مرة ثانية

تقدم المرض – للأسف – من مرحلة الى مرحلة دون توقف . لم أتوقف عن النمو يوما . ولم أتوقف عن التعلم وعن الدراسة يوما. ولم أتوقف عن بذل طاقتى كلها من أجل مستقبل أفضل أبدأ ، فكانت زوجتى الطيبة وكانت ابنتى كنزى التى أودعتها حبى للحياة، وأودعت هى فى قلبى أملا متجددا وصبرا على الألم ، بينما عجزت الأدوية الكثيرة التى تجرعتها جميعا على مدار السنين عن القضاء على المرض أو وقفه ولو لفترة . ربما كان وراثة ، وربما كان لعوامل أخرى لا أعرفها ولا يعرفها كل هؤلاء الأطباء الكثيرون الذين صادفتهم والذين بحثت عنهم والذين وصفوا لى عبر رحلتى . ومع ذلك لم يزل فى عيني نور وحنين الى شفاء قريب أو بعيد. وقد قيل لى إن هناك طبيبا بارعا فى مستشفى فى مدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية ، وأن مراجعته مكسب ، وان كانت رؤيته مكلفة تماما . نعم مكلفة تماما ، فرؤية هذا الطبيب تكلف ألفى دولار فى المرة الواحدة . ولكن لا معنى للمال أيضا ، اذا لم يسعف المرء فى مرضه ويفديه فى الملمات ، أجارنا الله من الشدائد . كنت وحيدا فى هذه الرحلة يرافقنى أملى وهمى فقط ، ولذا غادرت نيويورك الى هيوستن فى نفس اليوم دون تأخير . كنت أود أن أبقى فيها قليلا ، ولكن لا رغبة لى اليوم . ربما بقيت فى نيويورك ليوم أو بعض يوم فى طريق العودة إلى مصر . بدت هيوستن مدينة كبيرة مترامية المساحات كما كنا نشاهدها فى ذلك المسلسل الشيق دالاس فى ثمانينات القرن الماضى بجماله ورومانسيته . وكان الجو مفاجئة لى حقا . ففى هيوستن تجد نفسك فى مصر بجوها الدافىء معظم الوقت الحار الراطب فى بعض العام ، ولا تصدق أنك فى الولايات المتحدة الأمريكية التى ترتبط فى رأسى ورأسى الكثيرين – على ما أعتقد – بصقيع الشتاء وثلج الطريق ، ولكنها حقيقة يعيشها المقيمون فى تلك المدينة . وقد أخذنى هذا الجو من همى قليلا وروح عنى وأذهب عنى قليلا من الحزن والهم . فقد استطعت أن أتجول فى المدينة الكبيرة على أقدامى وقتما أحببت ذلك ، لأستطلع كل المنطقة بالفندق الذى نزلت فيه ضيفا ، بينما استعد لمقابلة الطبيب الخطير بعد يوم واحد . لم يكن من الصعب أن أقضى يوما طيبا فى هيوستن ، فهناك الكثير الذى يمكن للمرء عمله . وقد يكفيك أن تتجول فى المدينة الكبيرة بسيارة لتستطلع الأرجاء المتباينة ، وتطرق أبواب بعض تلك المطاعم التى تقدم المأكولات المختلفة فى أجواء متعددة الأريج والمزاج ، بحيث يصعب على المرء أن يزهق مما هو فيه ، ويصعب على الملل أن يتسلل اليه . وقد آثرت أن أزور مقر وكالة ناسا للفضاء ـ وأن أدع أمر المطاعم لوقت لاحق ، فطلبت من مرافقى أن يقصد بنا مقر الوكالة ، حيث تجمع أناس كثر من مختلف الأعمار ، وامتلأ المكان بالمحال التى تقم الهدايا التذكارية والتى تحمل اسم وكالة ناسا للفضاء . فلابد للمرء أن يخرج من هذا المكان بتذكار ما . فلما اكتمل العدد الكافى تحرك الجمع فى مركبات خاصة الى أحد المبانى الهامة الذى يضم قاعة لمتابعة عمليات اطلاق الصواريخ ، بينما قام مرشد بشرح إجمالى لنظام العمل داخل القاعة التى بدت كقاعة عادية تماما ، ولكنها فى الواقع ذات أهمية بالغة ولا يتحكم فيها إلا القائمين عليها فقط . وغادرنا القاعة الى نافئة تطل على صالة تجميع للصواريخ أو ورشة عمل تضم صاروخا رابضا على حوامل فى ضخامة وابهار . وقد أخذتنى قصة الصواريخ وأحجامها الهائلة ونظام عمل الوكالة من خواطرى المشغولة ، توشك الشمس على المغيب قد ولى النهار كله الا قليلا . كان المستشفى هائلا ونظيفا ومليئا بالحركة كميدان حربى أو استاد يشهد عدة مباريات فى آن واحد . وبعد انتظار قليل ، استقبلنى الطبيب الفخيم فى معمله الصغير ، ولم يتكلم كثيرا ، بل استلم ما معى من تقارير وأشعة وأوراق وفحصنى سريعا ، لأغادر مكتبه أم معمله خلال دقائق . فلما عاودت زيارة المستشفى فى اليوم التالى لمعرفة رأى الطبيب ، لم أحبط كثيرا لأنه لم يأت بجديد لم أسمعه من قبل . قال : يؤسفنى أن ما توصلت اليه أبحاثى من نتائج ايجابية للعلاج من هذا المرض لا يمكن أن تسعف فى حالتك انت . لقد تقدم المرض كثيرا . معذرة ! لقد حاولت على الأقل أن أجد العلاج ولم أجبن ولم أبخل على نفسى بمال ، وسيكون ما يكون . أما الآن وفورا ، فلابد أن أقصد واحدا من هذه المطاعم التى يبدو طعامها لذيذا ، وليكن مطعم اللوبستر الأحمر هذا القابع فى سكينة بن يدى عدد من الفاتنات اللائى يستقبلن الزبائن ويقمن على خدمتهم . رغم أنى لم أصدم صدمة كبيرة بما قاله الطبيب – لعلمى بحالتى – الا أن أملا ما كان يروادنى فى أسمع ما يسرنى ، ولو كان مستحيلا فى علم البشر . ولذلك ، آثرت الا أبقى فى نيويورك وأن أغادر منها الى القاهرة حتى لا أبقى وحيدا وكئيبا فى وقت أحتاج فيه الى عائلتى . اصطف الخلق فى طابور طويل فى مطار نيويورك ، بينما تجرى الاستعدادات للصعود الى الطائرة المتجهة الى مصر ، والناس تخلع ملابسها وأحزمتها وأحذيتها - كما لو كان مهرجانا صيفيا للهروب من حرارة الجو وغلوه . سألنى الضابط الشاب : ما هذه النقود الكثيرة التى تحملها ؟ ما زاد على العشرة آلاف دولارا فهو كثير . قلت عذرا ، ولكن للظروف أحكاما , وقد حملت المال من أجل العلاج والاقامة وما الى ذلك . قال الضابط فلنر أثباتات شخصيتك ولتصبر معنا قليلا ، هل تمانع ؟ قلت : أبدا . ما أسعد وجودى برفقتك ، ولتعمل إجراءاتك ريثما أنتظرك أنا والطائرة ، وربما انتظرتك أنا فقط ، اذا غابت اجراءاتك . قال الضابط الشاب : لا شأن لى بالطائرة . وراح يعمل يديه فى أزرار كثيرة ويحادث من يحادث تليفونيا ، بينما شغلت نفسى بهندامى وترتيب أشيائى بتأن ، فما سيكون من أمرى وأمر النقود سيكون . مرت دقائق قبل أن ينادينى الضابط بأدب ولطف قائلا : تفضل أوراقك وأموالك يا سيدى . يمكنك أن تغادر فى سلام ، ويمكنك أن تشتكى أيضا لو أنك متضرر من شىء . ابتسمت للضابط محييا ، ثم انطلقت إلى طائرتى لألحق بمقعدى وأهرب من قبضة نيويورك ، فكلما زرتها صادفت مقلبا أو موقفا طريفا - رغم انى أكن لها المودة – ولم أكن فى هذه الزيارة فى حالة مزاجية مناسبة لمقلب أو موقف . حفظ الله مصر ورئيسها ووفقه وقادتها الى الخير .



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;